التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
٨٧
وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
٨٨
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ
٨٩
وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٩٠
-النمل

تفسير الجيلاني

{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل تنبيهاً على التائهين في بيداء الغفلة: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } وهو البوق؛ لحشر الأموات من أجداثهم { فَفَزِعَ } وارتعد من هول تلك الصدى { مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من سكانها { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } تمكنه وقرار قلبه مطمئن بلا قلق واضطراب، وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله، المتحققون بمقام البقاء ببقائه، الواصلون إلى شرف لقائه بلا تلوين، منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأساً، وصاروا إلى حيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{ وَ } بعدما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا { كُلٌّ } ممن يتأتى منهم الإتيان { أَتَوْهُ } على كلتا القراءتين فعلاً أو اسم فاعل؛ أي: حضروا عنده وحاضروه { دَاخِرِينَ } [النمل: 87] صارغرين ذليلين، منتظرين إلى ما جرى عليهم من حكم الله، يُساقون إلى النار بمقتضى عدله؟ أم إلى الجنة بمقتضى فضله وإحسانه؟.
{ وَتَرَى } أيها الرائي يومئذٍ { ٱلْجِبَالَ } الراسيات التي { تَحْسَبُهَا } وتظنها { جَامِدَةً } ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب { وَهِيَ } في نفسها { تَمُرُّ } أي: تتحرك وتذهب { مَرَّ ٱلسَّحَابِ } أي: كمروره وسرعة سيره؟ إذ الأشياء العظيمة التي لا يحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وإن أسرع فيها، بل يظن أنها ثابتة في مقره، وهكذا حال الجبال وجميع الأظلال والأطلال قبل قيام الساعة لو تفطنت بمرورها أيها الفطن اللبيب، وجدتها في كل آن على التقضي والانصرام؛ إذ الأعراض لا قيام ولا قرار، بل كل يوم وآن في شأن، و
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن: 26-27].
ومرور الجبال على هذا المنوال { صُنْعَ ٱللَّهِ } أي: من صنع الله { ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ } وأحكم { كُلَّ شَيْءٍ } إتقاناً بديعاً، ودبره تدبيراً أنيقاً عجيباً، وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها أحد من عباده؛ إذ لا يسع لهم الإطلاع على أفعاله سبحانه، بل { إِنَّهُ } بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته { خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل: 88] أي: بجميع أفعالهم وأحوالهم، وأقوالهم الظاهر والباطنة، يجازيهم عليها على مقتضى خبرته، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
لذلك { مَن جَآءَ } من المكلفين في دار الابتلاء { بِٱلْحَسَنَةِ } أي: الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس { فَلَهُ } في دار الجزاء { خَيْرٌ مِّنْهَا } إذ يُعطى له بدله سبع مائة من الحسنة، وقد أبدل الخسيس بالشريف، سيما بأضعافه والفاني بالباقي { وَهُمْ } أيضاً مع وجود هذه المثوبات { مِّن فَزَعٍ } هائل مهول للناس { يَوْمَئِذٍ } أي: يوم ينفخ في الصور { آمِنُونَ } [النمل: 89] مطمئنون متمكنون، ولا يضطربون من هولها ولا يفزعون.
{ وَمَن جَآءَ } في دا ر الاختبار { بِٱلسَّيِّئَةِ } المردودة عند الله، وعند الناس من الأمور التي حرمها الشرع والعقل والمروءة { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } أي: كُبُّوا على وجوههم في النار صاغرين، قيل لهم حنيئذٍ زجراً عليهم، وطرداً لهم: { هَلْ تُجْزَوْنَ } أي: ما تُجزون بهذا الهوان والصغار { إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل: 90] من السيئات الجالبة له في النشأة الأولى.