ثمَّ أمر سبحانه ثانياً؛ تأكيداً لتأنيسه إياه بقوله: { ٱسْلُكْ } وأدخل { يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ } على الفور { بَيْضَآءَ } مضيئة منيرة، محيرة للعقول والأبصار؛ من كمال إشراقها وضوئها، مع أنها { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } أي: مرض من برص وبهق، فأدخل وأخرج فرأى ما رأى { وَ } بعدما رأى موسى يده في غاية البياض والصفاء استوحش أيضاً منها واسترهب عن عروض المرض إليها، أمره سبحانه ثالثاً؛ إزالة لحزنه بقوله: { ٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } أي: يديك، وأطوِ كشحك { مِنَ ٱلرَّهْبِ } أي: الخوف والحزن، وهذا كناية عن الطمأمنينة والوقار، وعدم إخطار الخوف في البال.
{ فَذَانِكَ } أي: العصا واليد والبيضاء { بُرْهَانَانِ } أي: شاهدان على نبوتك ورسالتك، ومعجزتان باهرتان لك لمن يعارض معك وأنكر عليك رسالتك، منتشئان { مِن } أمر { رَّبِّكَ } تأييداً لك ولأمرك حين أرسلك { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } لتدعوهم إلى توحيد الحق وصراط مستقيم، وتنذرهم عمَّا هم عليه من الإفراط والتفريط { إِنَّهُمْ } من غاية انهماكهم في الغفلة والغرور { كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [القصص: 32] خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة في شرائع الأنبياء الماضين، والرسل المنقرضين.
ثمَّ لمَّا سمع موسى من ربه ما سمع { قَالَ } معتذاراً مستظهراً: { رَبِّ } يا من رباني بسوابق النعم { إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } خطأ، وأنت أعلم به مني { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [القصص: 33] ويبادرون إلى قتلى قبل دعوتهم إلى دينك وتوحيدك لو ذهبت إليهم وحيداً فريداً بلا ظهير ومعين.
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } وأوضح بياناً، وأتم تقريراً وتبياناً { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ } وأشركه في أمري؛ ليكون { رِدْءاً } أي: معاوناً في أمري { يُصَدِّقُنِي } لدى الحاجة { إِنِّيۤ } من كمال عداوتهم معي، وشدة شكيمتهم وغضبهم عليَّ { أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [القصص: 34] دفعة، ولا ينطلق لساني بمجادلتهم؛ بسبب لكنتي فأفوت بلكنتي حكمة رسالتي، وأحكام دعوتي ونبوتي.
{ قَالَ } له سبحانه على وجه التأييد والتعضيد: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } ونقويك { بِأَخِيكَ } مع ذلك لا تيأس من توفيقنا إياك؛ إذ بعدما أرسلناكما إلى فرعون وملئه { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } حجة قاطعة بها تغلبان عليهم { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } بقهر واستيلاء { بِآيَاتِنَآ } أي: بسبب آياتنا التي معكما، ولا تخافا عن غلبتهم عليكما؛ بسبب شوكتهم وكثرة عَددهم وعُددهم، بل { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا } من المؤمنين هم { ٱلْغَالِبُونَ } [القصص: 35] المقصورون على الغلبة، لا تتعدة الغلبة عنكم، وهم المغلوبون المنحصرون على المغلوبية، لا يتجاوزون عنها أصلاً.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ } مؤيداً { بِآيَاتِنَا } الدالة على صدقها في دعواه، مع كونها { بَيِّنَاتٍ } ظاهرات واضحات أنها من عندنا بلا تردد وريب { قَالُواْ } من كمال قسوتهم وانهماكهم في الضلال: { مَا هَـٰذَآ } الذي أتى به على صورة المعجزة والبرهان { إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى الله افتراءً وترويجاً لباطله من صورة الحق { وَ } من شدة حرصه على ترويج ما زخرفه من عند نفسه سمَّاه ديناً وهدايةً ورشداً، ونسبه إلى الوحي والإنزال من الإله الواحد الموهوم، مع أنَّا { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا } أي: بوحدة الإلهة المرسل للرسل، والمنزل للكتب بالوحي والإلهام، الواضع للأديان والشرائع بين الأنام كائناً ثابتاً { فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [القصص: 36] إن هو إلا إفك افتراه، ولبَّس على الأنام أمره؛ تغريراً عليهم، وتضليلاً لهمز
{ وَ } بعدما أبصروا الآيات القاطعة والبراهين الساطعة، ونسبوها من غاية غيهم وضلالهم إلى لاسحر والشعوذة، مع أنها بمراحل عنها { قَالَ مُوسَىٰ } بعدما قنط من إيمانهم وصلاحهم: { رَبِّيۤ } الذي رباني بأنواع الكرامات { أَعْلَمُ } منِّي { بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ } والرشد المنزل { مِنْ عِندِهِ } بمقتضى وحيه وإلهامه، ومن اهتدى واسترشد به { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ } يعني: العاقبة الحميدة المترتبة على هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار، وبالجملة: { إِنَّهُ } سبحانه بمقتضى عدله وحكمته { لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } [القصص: 37] الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية، ولا يفوزون بما فاز المتقون من المثوبة العظمى والدرجة العليا.