التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٧٤
وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوۤاْ أَنَّ ٱلْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٧٥
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ
٧٦
وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٧٧
-القصص

تفسير الجيلاني

{ وَ } اذكر للمشركين أيضاً يا أكمل الرسل { يَوْمَ يُنَادِيهِمْ } الحق { فَيَقُولُ } مغاضباً عليهم، مسفهماً على سبيل التوبيخ والتقريع: { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: 74] أيها الحمقى شركاء معي، أحضروهم حتى يظهر الحق، ويقمع الباطل الزاهق الزائل.
{ وَ } بعدما بهتوا وسكتوا من الجواب { نَزَعْنَا } وأخرجنا { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } يشهد عليهم جميع ما صدر عنهم وجرى عليهم في دار الاختبار، والشهيد هو النبي المبعوث إليهم حين انحرافهم عن سبيل الاستقامة { فَقُلْنَا } للأمم بعد نزع شهدائهم: { هَاتُواْ } أيها الضالون { بُرْهَانَكُمْ } أي: مستندكم ودليلكم الذي أنتم تضلون لأجله وتشركون بسببه، وتنحرفون عن جادة العدالة وسبيل السلامة بمتابعة { فَعَلِمُوۤاْ } حنيئذٍ { أَنَّ ٱلْحَقَّ } أي: اللياقة والاستحقاق على العبادة { لِلَّهِ } الحقيق بالحقية، الجدير بالألوهية اللائق بالربوبية، ليس كمثله شيء يُعبد له ويُرجع إليه { وَ } بعدما جاء الحق وزهق الباطل { ضَلَّ } أي: غاب وخفي حنيئذٍ { عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [القصص: 75] المعبودية إليه وينسبون الألوهية والربوبية نحوه جهلاً وعناداً، ويدعون اشتراكه مع الله في استحقاق العبادة والرجوع إليه لدى الحاجة.
ثمَّ قال سبحانه تذكيراً للمؤمنين وعبرةً لهم عن تفظيع حال من تكبر على الله، وعتا على كليمه، وخرج عن ربقة الإيمان وقلادة الإخلاص معه؛ بسبب ما بسط الله عليه من حطام الدنيا ومن زخرفاها ابتلاءً وفتنةً: { إِنَّ قَارُونَ } المتجبر المتكبر الذي ظهر على الله و على رسوله متفخراً بماله وجاهه { كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ } أي: من جملة من آمن له وصدقه، قيل: هو ابن عمته، وقيل: ابن خالته، وكان أميراً بين بين إسرائيل قد أمَّره عليهم فرعون، وبعدما ظهر موسى وهارون فآمن له وحفظ التوراة وأحسن حفظه إلى حيث يقرؤه عن ظهر القلب، ثمَّ لمَّا استولى موسى وأخوه على مملكة العمالقة، وانقرض الفراعنة رأساً حسدهما قارون، وأنكر جاههما إتكاءً بما عنده من الكنوز، فقال يوماً لموسى: لك الرسالة ولأخيك الحبور، وأنا في غير شيءٍ إلى متى أصبر؟! { فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ } وقصدهم مغالبتهم.
{ وَ } ما ذلك إلا أن { آتَيْنَاهُ } وأعطينا له مكراً له، وافتناناً عليه { مِنَ ٱلْكُنُوزِ } أي: الأموال التي عهد ادخارها من الذهب والفضة وغيرهما، وبلغت من الكثرة إلى { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } أي: إلى حد مفاتح أقفال مخازنه، وأقفال الصناديق الموضوعة فيها المختومة المقفولة { لَتَنُوءُ } وتثقل من كثرتها { بِٱلْعُصْبَةِ } أي: الجماعة الكثيرة من الحفظة، مع أنهم من { أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ } أقوياء على حمل الثقيل جداً، وكان مفتخراً بها بطراً، فرحاناً يمشي على وجه الأرض خيلاء { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } أي: بعض منهم من أقربائه وقرنائه بعدما أبصروا بطره المفرط نهياً له، وتشنيعاً عليه، وحثاً له على الإنفاق والصرف في سبيل الخيرات: { لاَ تَفْرَحْ } بما عندك من الزخرفة الفانية فإنها عن قريب ستفوت، وأخرجها من قلبك { إِنَّ ٱللَّهَ } المصلح لأحوال عباده { لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص: 76] منهم، سيما بحطام الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الروحانية.
{ وَٱبْتَغِ } واطلب { فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ } المنعم المفضل من الرزق الصوري الزائل الغير القار { ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي: الرزق المعنوي القار، المسمى في دار القرار، وذلك لا يحصل لك إلا بإنفاق ما في يدك من الرزق الصوري في سبيل الله للفقراء؛ طلباً لمرضاته بلا شوب المنِّ والأذى، وسدِّ الثغور وبناء القناطير والخانات، والمساجد وبقاع الخيرات، وغير ذلك من الأمور المتعلقة لعموم مصالح العباد والتسهيل عليهم ورفع العسرة عنهم { وَ } إن أردت أن تكون من أهل الثروة والجاه المخلد في النشأتين { لاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } وهو الاجتهاد في مرتبة الاستخلاف والنيابة على مقتضى كريمة:
{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ... } [الحديد: 7].
إذ العبد وما في يده لمولاه والتصرفات الحادثة في عالم الكون والفساد إنما هي مستندة إلى الله أولاً بالذات { وَ } بعدما علمت ما هو نصيبك وحظك من دنياك، وما معك منه في أخراك إلا الإحسان والإنفاق { أَحْسِن } مما جعلك الحق خليفةً عليه { كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ } أي: لا تطلب { ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ } اتكالاً على ما في يدك من أسبابه التي هي الأموال المؤدية إلى أصناف الفسادات، وارتكاب أنواع المحذورات والمنهيات { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لجميع حالات عباده { لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } [القصص: 77] منهم، سيما بمظاهرة حطام الدنيا الدنيَّة.