التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١٩
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
-العنكبوت

تفسير الجيلاني

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } إلى كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته { كَيْفَ يُبْدِئُ } أي: يظهر ويبدع { ٱللَّهُ } القادر المقتدر { ٱلْخَلْقَ } أي: جميع المخلوقات والموجودات من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ويعدمه كما برأه وأظهره على مقتضى النشأتين نزولاً وعروجاً، هبوطاً وصعوداً، ظهوراً وبطوناً، مداً وقبضاً، نشراً وطياً، لطفاً وقهراً، جمالاً وجلالاً { إِنَّ ذٰلِكَ } التبديل والتحويل { عَلَى ٱللَّهِ } المتجلي في الأكوان في كل آن في شأن { يَسِيرٌ } [العنكبوت: 19] إذ لا يعرضه العسر والفتور، ولا يلحقه العجز والقصور ولا يبرمه مر الدهور وكر الشهور.
وإن أنكروا لك ولم يقبلوا منك تنويرك الذي جئت به { قُلْ } لهم يا أكمل الحلم والخلة: { سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } سير معتبر خبير { فَٱنظُرُواْ } بنظر الاعتبار والاستبصار { كَيْفَ بَدَأَ } وأظهر { ٱلْخَلْقَ } في أقطار الآفاق ونشرهم فيها وبسطهم عليها بامتداد أظلال أسمائه وصفاته { ثُمَّ ٱللَّهُ } القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بالاختيار والاستقلال { يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } المقابلة لنشأة الظهور والإبداع، وهي نشأة الكمون والإخفاء والفناء والإفناء، بأن قبض سبحانه بمقتضى قهره وجلاله جميع ما امتد من أضلال، وطوى نحوه ما نشر من آثار الأوصاف والأسماء { إِنَّ ٱللَّهَ } المتردي برداء العظمة والكبرياء { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من مقدرواته ومراداته { قَدِيرٌ } [العنكبوت: 20] لا تنتهي قدرته عند مقدورٍ، بل له أن يتصرف فيه كيف شاء ومتى أراد أزلاً وأبداً.
ومن كمال قدرته ومقتضى حكمته ومشيئته: { يُعَذِّبُ } من عباده { مَن يَشَآءُ } لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم سواه؛ إذ { وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } برحمته الواسعة أيضاً كذلك على مقتضى لطفه وجماله { وَ } لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم؛ إذ { إِلَيْهِ } لا إلى غيره؛ إذ لا غير في الوجود معه { تُقْلَبُونَ } [العنكبوت: 21] انقلاب الزبد هواء والأمواج ماء.
{ وَ } إذا ثبت أن منقلبكم إليه ومرجعكم نحوه، فعليكم الإطاعة والإيمان بالله وبوحدانيته طوعاً بلا تذبذب وتلعثم؛ إذ { مَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } على إدراككم وأخذكم { فِي ٱلأَرْضِ } لو تحصنتم فيها { وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } لو تدليتهم إليها؛ إذ الكل في قبضته وقدرته وتحت تصرفه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء { وَ } بالجملة: { مَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } المعيد المبدئ، المحيي المميت { مِن وَلِيٍّ } يولي أموركم بالاستقلال ويتصرف فيكم بالإرادة والاختيار { وَلاَ نَصِيرٍ } [العنكبوت: 22] ينصركم على أعدائكم ويدفع ضررهم عنكم.
ثم قال سبحانه؛ حثاً لهم إلى الإيمان وترغيباً لهم إلى التوحيد والعرفان: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على عظمة ذاته وكما أسمائه وصفاته { وَلِقَآئِهِ } أي: أنكروا بلقائه الموعود لأرباب الكشف والشهود { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء المطرودون عن ساحة عز القبول هم الذين { يَئِسُواْ } وقنطوا { مِن رَّحْمَتِي } مع سعتها ووفورها { وَأُوْلَـٰئِكَ } المردودون في تيه الغفلة والضلال { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت: 23] في النشأة الأولى والأخرى، لا يرجرى نجاتهم وخلاصهم أصلاً.