التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٤٧
وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٤٨
وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٤٩
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٥٠
-آل عمران

تفسير الجيلاني

فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت إلى ربها واشتكت حيث { قَالَتْ رَبِّ } يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح { أَنَّىٰ } من أين { يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ } وأنت تعلم يا رب أني { لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ومن سنتك إيجاد الولد بعد مباشرة الزوج؟ { قَالَ } سبحانه إشفاقاً لها وإزالة لشكها: { كَذَلِكَ } أي: مثل حالتك التي تعجبين منها، وهي ولادتك بلا مساس أحد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهوراً إبداعياً؛ إذ { ٱللَّهُ } بقدرته { يَخْلُقُ } يظهر جميع { مَا يَشَآءُ } بلا سباق مدة ومادة بل { إِذَا قَضَىٰ } أراد { أَمْراً } إيجاد أمر وإظهاره من الأمور المكانية الثابتة في حضرة العلم { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ } تنفيذاً لقضائه مجرد كلمة: { كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47] بلا تراخ ولا مهلة، بلا توقف على شرط وارتفاع مانع، وحالك التي تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل.
ولا تحزني ولا تخافي من التهمة والفضيحة والتعبير والتشنيع؛ إذ لابنك خصائص ومعجزات رفعت عنك جميع ما يعيبك ويشينك؛ إذ لا يشتبه على ذي عقل إن ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصائل والخوارق { وَ } من جملتها أنه { يُعَلِّمُهُ } من لدنه لا تعليم أحد { ٱلْكِتَٰبَ } أي: العلوم المتعلقة بالأمور الظاهرة والتدابير الملكية الشهادية { وَٱلْحِكْمَةَ } أي: العلوم الباطننة المتعلقة بالحقائق الغيبية { وَ } يعلمه أيضاً { ٱلتَّوْرَاةَ } المنزل على موسى صلوات الله عليه { وَ } ينزل عليه خاصة { ٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران: 48] من عنده.
{ وَ } بعد إنزال الإنجيل يرسله { رَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يدعوهم إلى طريق الحق ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويؤيده بالآيات الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على تصديقه إلى حيث يقول: { أَنِّي } بأمر ربي { قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } دالة على نبوتي ورسالة نازلة { مِّن رَّبِّكُمْ } وهي { أَنِيۤ أَخْلُقُ } أصور وأقدر { لَكُمْ } بين أيديكم بإقدار الله أياي { مِّنَ ٱلطِّينِ } الجماد صورة { كَهَيْئَةِ } كصورة { ٱلطَّيْرِ } ومثاله جماداً بلا حس وحركة { فَأَنفُخُ فِيهِ } أي: في ذلك المثال { فَيَكُونُ طَيْراً } حيواناً طياراً مثل سائر الطيور، ذلك التقدير والنفخ يصير صادراً مني { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } بقدرته وإرادته { وَ } كذا { أُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ } المكفوف العينين { وٱلأَبْرَصَ } الذي لا يرجى يرؤهما { وَ } أعظم من جميع ذلك أن { أُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ } القديمة كل ذلك { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } وقدرته وإرادته، فهو إجمالاً لا إطلاع لكم على لميته بعد وقوعها أيضاً { وَ } مما لكم إطلاع عليه بعد قوعه { أُنَبِّئُكُمْ } أخبركم { بِمَا تَأْكُلُونَ } من الطعام والفواكه { وَمَا تَدَّخِرُونَ } منها { فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به أحد { لآيَةً } ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي { لَّكُمْ } لإهدائكم { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران: 49] بالله وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
{ وَ } مع هذه الآيات والمعجزات الظاهرة الباهرة جئتكم { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } المنمزل على موسى - صلوات الرحمن عليه - بل على جميع الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين - صلوات الله عليهم أجمعين - وأديانهم وشرائعهم؛ إذ من جملة أمارات النبوة تصديق الأنبياء الذين مضوا من قبله { وَ } جئتكم أيضاً { لأُحِلَّ لَكُم } في دينكم، وملتكم المنزلة من عند الله علي { بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } في الأديان الماضية؛ إذ من سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض، وإن كان الكل نازل من عنده، ولمية أمر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [البقرة: 106] { وَ } الحاصل أني { جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } قاطعة ساطعة { مِّن رَّبِّكُمْ } دالة على توحيده سبحانه، أفردها من عنده باعتبار أن كل واحد من المذكورات يكفي لثبوت نبوته، وبعدما ظهر منه الكل { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي: فاحذروا الله من غضبه ألاَّ تؤمنوا بعد وضوح الدلائل { وَأَطِيعُونِ } [آل عمران: 50] في جميع ما جئت به من عنده سبحانه.