التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٨
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
٧٩
وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
٨٠
-آل عمران

تفسير الجيلاني

{ وَإِنَّ مِنْهُمْ } لغاية بغضهم وعداوتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم { لَفَرِيقاً } جماعة وفئة من المحرفين الذين يحرفون اسمه ونعته في التوراة، يقصدون تشهير المحرف وترويجه على ضعفاء العوام، إضلالاً لهم حيث { يَلْوُونَ } يطلقون { أَلْسِنَتَهُمْ } بالمحرف إطلاقهم { بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ } أي: ليظن السامعون أنه { مِنَ ٱلْكِتَابِ وَ } الحال أنه { مَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } المنزل لا نصاً ولا أخذاً ولا تأويلاً { وَ } مع ذلك يفترون { يَقُولُونَ هُوَ } المحرَّف منزل { مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَ } الحال أنه { مَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } بل من تسويلات نفوسهم الخبيثة، والباعث عليها أهويتهم الباطلة من حب الجاه والرئاسة { وَ } لترويج { يَقُولُونَ } فيه ينسبون { عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } افتراء { وَهُمْ } في ضمائرهم وبواطنهم { يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 78] يقيناً أنه فرية صدرت عنهم؛ مكابرة وعناداً.
ومع ادعائهم الإيمان والتوحيد والكتاب والرسل، وحصرهم الدين والشريعة على دينهم وشروعهم، لم يتفطنوا ولم يعلموا أن البشر و إن أُرسل وأُنزل وخُصص بفضائل جليلة وخصائل جميلة، لكن لا ينسلخ عن لوازم البشرية مطلقاً، حتى يتصف بالألوهية، بل لا يزال البعد عبداً والرب رباً.
غاية ما في الباب أن الأشخاص البشرية في التجريد عن لوازمها تتفاوت، فمن كان تجريده أكثر كان إلى الله أقرب، وإلى الفناء أميل، وإلى البقاء أشوق، وإلا فالسلوك لا ينقطع أبد الآبدين، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل:
"ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي" ما للعباد ورب الأرباب، فعيسى - صلوات الرحمن عليه - وإن ارتفع قدره وعلت رتبته عند الله، وأظهر بنصر الله خوارق خلت عنها الأنبياء - عليهم السلام - لكن لا ينسلخ عن لوازم البشرية مطلقاً، وهم يدعون انسلاخه ويعبدونه كعبادته سبحانه وتعالى، وينسبونه إلى الله بالنبوة - والعياذ بالله - وما قدروا الله حق قدره.
لذلك رد الله عليهم على سبيل التنبيه والتعليم بقوله: { مَا كَانَ } أي: ما صح وجاز { لِبَشَرٍ } خصَّه لرسالته ونيابته { أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ } ينزله { ٱلْكِتَٰبَ } المبين له الشرائع { وَٱلْحُكْمَ } المحفوظ فيها، المتعلق بأحوال العباد في معاشهم { وَٱلنُّبُوَّةَ } المقتبسة منها، المتعلقة بأحوالهم في معادهم { ثُمَّ } بعدما اصطفاه الله واختاره بالتشريف الأتم الأكمل { يَقُولَ لِلنَّاسِ } المرسل إليهم تجبراً واستكباراً: { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } اعبدوني عبادة خاصة { مِن دُونِ } عبادة { ٱللَّهِ } وما هي إلا شرك غليظ، كيف صدر أمثال هذه الهذيانات من مشكاة النبوة، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً { وَلَـٰكِن } قولهم وأمرهم عليهم هو كذا: { كُونُواْ } أيها الموحدون { رَبَّـٰنِيِّينَ } مخلصين، ولا تكونوا شياطنيين مشركين { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ } أي: تعلمون أنتم من { ٱلْكِتَٰبَ } من أمور دينكم { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران: 79] تعلمونه لغيركم من تلامذتكم، وما يأمر ويوحي الأنبياء إلا مثل هذا.
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } نبيكم إضلالاً لكم مع كونه هداياً { أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ } المرسلين لكم من عد الله بوسيلة الملائكة { أَرْبَاباً } آلهة موجودين أصالة غير الله { أَيَأْمُرُكُم } أتظنون أن يأمركم النبي المرسل لهدايتكم إلى طريق التوحيد { بِٱلْكُفْرِ } بالشرك { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 80] موحدون برسالته، أفلا تعقلون؟.