التفاسير

< >
عرض

وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
٢٦
وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٧
ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٨
بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٩
-الروم

تفسير الجيلاني

{ وَ } كيف لا تسمعون وتخرجون منها أحياءً بعدما تعلق قدرته سبحانه بإخراجكم وإعادتكم؛ إذ { لَهُ } ملكاً وتصرفاً، إبداعاً وإنشاءً { مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من الملائكة المغمورين في آلاء الله ونعمائه، المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم { وَ } من في { ٱلأَرْضِ } من أرباب الولاء التائهين في بيدا الألوهية، الفانين في فضاء الربوبية، الهائمين في صحراء الوجود؛ لذلك { كُلٌّ } ممن أشرق عليه شمس الذات، ولاح عليه نور الوجود، ولمع عليه برق التجليات الحبيبة اللطيفة { لَّهُ قَانِتُونَ } [الروم: 26] منقادون مطيعون طوعاً وطبعاً؟!.
{ وَ } كيف لا ينقادون ويطيعون لحكه أولئك المسخرون لصولجان قضائه، وقلم تقديره { هُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ } ويظهر { ٱلْخَلْقَ } من كتم العدم في فضاء الوجود بمقتضى اللطف والجود، ثمَّ يعدمه ويميته بمقتضى قهره وجلاله أيضاً فيها { ثُمَّ يُعِيدُهُ } أيضاً على ما يشئه في النشأة الأخرى إظهاراً لكمال قدرته ومقتضى حكمته؛ كي يظهر مصلحة الإبداء والإبراز في النشأة الأولى، وفائدة ما يترتب عليها في النشأة الأخرى يوم العرض والجزاء { وَ } أهل الأهواء والآراء الباطلة ينكرون الإعادة، مع أنه { هُوَ } أي: الإظهار بعد الإعدام { أَهْوَنُ } وأسهل { عَلَيْهِ } سبحانه بالنسبة إلى عقولهم السخيفة، وأحلامهم الضعيفة من الإبداء والإبداع لا عن شيء وبلا سبق مادة، وإن كانت نسبة قدرته وإرادته سبحانه إلى كل ما دخل في حيطة حضرة علمه وخبرته على السواء؛ إذ
{ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ } [الملك: 3] وكرر النظر { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } [الملك: 3] وفتور في مبدعات الحق ومخترعاته؟!.
{ وَ } كيف يتفاوت دون قدرته الأشياء؛ إذ { لَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } واليد الطولى، والتصرف التام، والاقتدار العام الشامل لكل ما لاح عليه برق الوجود سواء كان { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات باعتبار التنزؤلات من مرتبته الأحدية، والعماء التي لا يسع فيه إدراك مدرك وخيرة خبير { وَٱلأَرْضِ } أي: السلفيات التي هي هالم الهيولي والطبيعة القابلة لأن تنعكس منها أشعة أنواع العلويات المتفاوتة حسب تفاوت الشئون والتطورات المرتبة على الأسماء والصفات المتخالفة المتكثرة حسب التجليات الحِبِّية الإلهية؟! { وَ } كيف لا يكون له سبحانه المثل الأعلى؛ إذ { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب في ذاته، حيث تفردت بوجوب الوجود، ودوام البقاء المنيع فناء على سرادقات سطوته وسلطنته عن شوب النقص والقصور مطلقاً { ٱلْحَكِيمُ } [الروم: 27] المقتن في أفعاله وآثاره بالاستقلال على مقتضى حيطة حضرة علمه الكامل بجميع وجوه الكمالات اللائقة لكل ذرة من ذرائر الكائنات؟!.
لذلك { ضَرَبَ لَكُمْ } سبحانه تبييناً وتنبيهاً { مَّثَلاً } متخذاً منتزعاً { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أيها المشركون المتخذون لله شركاء من مصنوعاته وعبيده؛ إذ هي أقرب الأشياء إليكم، وأوضحها عندكم { هَلْ لَّكُمْ } أيها الأحرار المتصرفون بالاستقلال في منسوباتكم متصرف آخر سواكم { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وحصلت من اكسابكم من العبيد والإماء الذين هم من جملة منسوابتكم، وهل يصح ويجوز لمملوكيكم أن يكونوا، وبعدوا { مِّن شُرَكَآءَ } معكم يتصرفون أمثالكم { فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } مثل تصرفكم بلا إذن منكم؟!.
وبالجلمة: { فَأَنتُمْ } أيها المالكون وما ملكت أيمانكم { فِيهِ } أي: في التصرف والاحتياج إلى الأموال { سَوَآءٌ } إذ هم أمثالكم، فلأي شيء تحتاجون إليه أنتم، وهم أيضاً محتاجون إليه بلا تفاوت ولكن { تَخَافُونَهُمْ } وتحذرون منهم أن تتصرفوا في أموالكم وأكسابكم بلا إذنٍ منكم { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } يعني: تخافون على تضييع أموالكم، مثل خوفكم على أنفسكم، بل أشد من ذلك، وبالجملة: تخافون منهم أن تساووا معكم في التصرف في أموالكم؛ فلذلك منعتموهم، ولم ترضوا بتصرفهم وشركتهم في الحطام الدنيا، فكيف ترضون لنا شركة عبيدنا ومخلوقاتنا في ألوهيتنا وربوبيتنا، والتصرف في ملكنا وملكوتنا أيها الغافلون المفرطون في شأننا، والجاهلون بقدرتنا ومكانتنا؟!. { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ } ونوضح { ٱلآيَاتِ } أي: دلائل توحيدنا، وبراهين وحدتنا وتفريدنا { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 28] ويستعملون عقولهم في تأمل الآيات، والتدبر فيها على وجه العبرة الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
{ بَلِ ٱتَّبَعَ } الجاهلون { ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } أنفسهم بالخروج على مقتضى الآيات الواضحة، والبراهين اللائحة { أَهْوَآءَهُمْ } الباطلة، وآراءهم الزائغة الزائلة، مع أن اتباعهم بها { بِغَيْرِ عِلْمٍ } فائض عليهم من المبدأ الفياض، بل عن جهل مركوز في جبلتهم مركب مع طبيعتهم في أصل فطرتهم؛ لمقتضى الشقاوة الأزلية والغباوة الفطرية الجبلية، وإذا كان الأمر على ذلك { فَمَن يَهْدِي } ويرشد { مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } وأراد ضلاله، وأثبته في لوح قضائه وحضرة علمه من جملة الضالين وزمرة الجاهلين { وَمَا لَهُمْ } بعدما نفذ القضاء على شقاوتهم وضلالهم { مِّن نَّاصِرِينَ } [الروم: 29] ينصروهم، ويرشدونهم إلى سبيل الهداية وطريق السعادة والرشاد.