التفاسير

< >
عرض

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٠
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٣١
مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٣٢
وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٣٣
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣٤
-الروم

تفسير الجيلاني

وبعدما سمعت يا أكمل الرسل أن الهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } فاستقم واعتدل بوجه قلبك الذي فاض عليك من ربك تتميماً لتكميلك، وتخليصاً لك عن قيود بشريتك وأغلال طبيعتك؛ لتصل به إلى مقرك من التوحيد الذي جُلبت لأجله { لِلدِّينِ } النازل لك من عند ربك تأديباً لك يا أكمل الرسل ولمن تبعك، وإصلاحاً لشأنك وشأن متابعيك { حَنِيفاً } أي: حال كونك مائلاً عن الأديان الباطلة، والآراء الفاسدة مطلقاً، واعلم يا أكمل الرسل أن { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } وصيغته التي صبغهم بها أصلية جبلية لا تزول عنهم أصلاً، إذ { لاَ تَبْدِيلَ } ولا تغيير وتحويل { لِخَلْقِ ٱللَّهِ } الحكيم العليم، وتقديره الذي قدره بمقتضى علمه وحكمته كما قال عز شأنه: { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } [ق: 29].
{ ذَلِكَ ٱلدِّينُ } المنزل عليك من ربك يا أكمل الرسل؛ لوقاية الفطرية الأصلية المذكورة هو الدين { ٱلْقَيِّمُ } الطريق الأعدل الأقوم، الموصل إلى توحيده سبحانه على الاستقامة بلا عوج وانحراف { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على الغفلة والنسيان { لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم: 30] حقيقته، ولا يفهمون استقامته وإيصاله إلى التوحيد، فعليكم أيها المحمديون أن تتدينوا بدين الإسلام، وتطيعوا بجمع ما فيه من أوامر الله ونواهيه.
{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } راجين نحوه بالإخلاص التام { وَٱتَّقُوهُ } واحذروا عن محارمه خوفاً من انتقامه بالخروج عن مقتضى حدوده، ومع ذلك لا تقطنوا من فضله وسعة ورحمته وجوده { وَ } بالجملة: { أَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } وأديموا الميل نحوه في جميع أوقاتكم وحالاتكم، سيما في الأوقات المكتوبة والساعات المحفوظة { وَلاَ تَكُونُواْ } أيها المنيبون المتوجهون نحو الحق، المتدينون بدين الإسلام { مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الروم: 31] المشركين معه سبحانه غيره في حال من الأحوال، ولا تنسبوا الحوادث الكائنة في ملكه وملكوته إلى غيره من الأضلال والأسباب الهالكة، المستهلكة في شمس ذاته مع كمال توحده واستقلاقه في الوجود والتصرفات الواقعة في مظاهره ملطقاً.
وبالجملة: لا تكونوا أيها المحمديون المتدينون بالدين النازل من عند الله؛ لحفظ فطرتكم التي هي التوحيد الذاتي { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } الوحداني الذي هو وقاية توحيدهم فرقاً مختلفة، وابتدعوا فيه مذاهب متفاوتة متخالفة فتشعبوا شعباً كثيرة { وَكَانُواْ شِيَعاً } وأحزاباً يشايع ويروج { كُلُّ حِزْبٍ } منهم { بِمَا لَدَيْهِمْ } وعندهم من المذهب المبتدع المستحدث من تلقاء نفوسهم { فَرِحُونَ } [الروم: 32] مسرورون، مدعون كل منهم حقية ما هم عليه من الباطل الزائغ.
ثمَّ أشار سبحانه إلى ما حداهم وأغراهم على هذا الزيغ والضلال من الخصلة الذميمة المركوزة في جبلتهم فقال: { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ } المجبولين على الكفران والنسيان { ضُرٌّ } أي: شدة وبلاء، ومصيبة وعناء يزعجهم إلى الدعوة والتوجه نحو الحق؛ لكشفه وتفريجه { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } مائلين عن الأسباب العادية مطلقاً، مسترجعين نحوه عن محض الندم والإخلاص { ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ } الحق، وأنجاهم { مِّنْهُ } أي: من الضرر ومن آثاره ولوازمه المستتبعة { رَحْمَةً } لهم، وعطفاً إياهم على مقتضى اللطف والجمال { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي: فجاء فريق منهم { بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [الروم: 33] أي: يشركون بربهم، وينسبون الكشف والتفريج إلى الأسباب الوسائل العادية، بل إلى ما اتخذوها من دون الله من الآلهة الباطلة التي اعتقدوها شفعاء ينقذونهم عن أمثاله.
وإنما فعلوا ذلك ونسبوا ما نسبوا إلى الأظلال البالطة { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } وأعطيانهم من النعم العظام والفواضل الجسام؛ وما ذلك إلا من خبث طينتهم، وتركب جهلهم في جبلتهم، قل لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا: { فَتَمَتَّعُواْ } أيها لاكافرون لنعمنا، ولفواضل لطفنا ولكرمنا، ولتعيشوا بها بطرين مسرورين { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الروم: 34] عاقبة تمتعكم وكفرانكم، وما يترتب عليها من أنواع العذاب والنكال؛ إذ يأتي عليهم زمان يعترف كلٌّ منهم بما جرى عليه من الكفران والعصيان وقت رؤيتهم أحوال الكافرين وأهوالهم في النار.