التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٢١
وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ
٢٢
-لقمان

تفسير الجيلاني

{ أَلَمْ تَرَوْاْ } ولمت تعلموا أيها المجبولون على الدربة والدارية { أَنَّ ٱللَّهَ } الحكيم المتقن في عموم أفعاله { سَخَّرَ لَكُمْ } وسهَّل عليكم تتميماً لفضلكم وكرامتكم جميع { مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: العلويات التي هي علل وأسباب، وإن كانت معلولات في أنفسها { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي: السفليات؛ أي: هي مسببات عن العلويات وقوابل لما يفيض عنها بطريق جري العادة؛ ليحصل من امتزاجها ما تعيشون بها، مترفهين متنعمين من أنواع الفواضل والنعم.
{ وَ } بالجملة: { أَسْبَغَ } أي: أكثر وأوفر سبحانه { عَلَيْكُمْ } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية، والكمال الجبلي { نِعَمَهُ ظَاهِرَةً } تدركون بها ظواهر الآفاق من المبصرات والمسموعات الملموسات، والمشمومات والمذوقات { وَبَاطِنَةً } تدركون بها سرائر المعلومات والمعنويات، وتنكشفون بها إلى المعارف والحقائق الفائضة على قلوبكم التي أودعها الله العليم الحكيم في بواطنك؛ ليسع فيها وينزل عليها سلطان وحدته الذاتية السارية في ظواهر الأكوان وبواطنها الكائنة أزلاً وأبداً، مع أنه سبحانه لا يسعه في سعة السماوات والأرض وإن فرض لها أضعاف وآلاف، لكنه يسع في قلب عبده العارف المؤمن الموقن، المنكشف بتوحيده وبظهور وحدته الذاتية المتجلية على صفائح ما ظهر وبطن، ومع ظهور وحدته سبحانه في ذاته واستقلاله في إظهار المظاهر الكائنة أزلاًَ وأبداً.
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على الجدال والنسيان، المنهمكين في بحر العناد والطغيان { مَن يُجَادِلُ فِي } توحيد { ٱللَّهِ } المتوحد المتفرد بالألوهية والربوبية، المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته إرادةً واختياراً، ويثبت له شريكاً سواه ويعبده كعبادته، مع أن جداله ما يستند إلى سندٍ يصلح للاستناد، بل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } دليل عقلي يمكن التوصل به إلى إثبات ما ادعاه بطريق النظر والاستدلال { وَلاَ هُدًى } أي: كشف صريح لدني نبع من قلبه بلا افتقار إلى المقدمات والوسائل العادية التي يستنتج منها المطالب { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [لقمان: 20] أي: دليل نقلي ينور خلده، ويعده لفيضان المعارف والحقائق من المبدأ الفياض، بل إنما نشأ ما ادعاه من محض التقليد والتخمين الحاصل من متابعة الوهم والخيال.
{ وَ } لذلك { إِذَا قِيلَ لَهُمُ } على سبيل العظة والتذكير إمحاضاً للنصح: { ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } المصلح لأحوالكم من الدين والكتاب المشتمل على أنواع الرشد والهداية، والنبي المؤيَّد من عنده، المبعوث إليكم؛ لهدايتكم وإصلاحكم { قَالُواْ } في الجواب: ما نتبع بمفترياتكم المستحدثة التي ابتدعتموها من تلقاء أنفسكم، ونسبتموها إلى الله تغريراً وترويجاً { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } إذ هو مستمر قديم، فنحن بأثرهم متبعونن، وبدينهم راضون متخذون.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا: { أَ } يتبعون آبائهم أولئك الضالين { وَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ } المغوي المضل إياهم { يَدْعُوهُمْ } وآباءهم أيضاً إلى الباطل؛ ليصرفهم عن الحق، ويوصلهم { إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [لقمان: 21] الذي أُعد لمتابعيه، ومن يقتفي أثره ويقبل دعوته.
ثمَّ قال سبحانه: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ } الذي يلي الحق { إِلَى ٱللَّهِ } ويخلص في توجهه نحوه { وَ } الحال أنه { هُوَ مُحْسِنٌ } ناظر إلى الله بنوره سبحانه، مطالع بوجهه الكريم { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ } وتمسك { بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ } التي لا انفصام لها، وهي حبل الله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات، ومن تمسك بها فقد فاز بكنف حفظه وجواره، وأمن من شر الشيطان وغوائله وتضليلاته عن طريق الحق وصراطه المستقيم { وَ } كيف لا { إِلَىٰ ٱللَّهِ } المستجمع لجميع الأسماء والصفات المترتبة لما في الكائنات لا إلى غيره من الوسائل والأظلال العادية { عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ } [لقمان: 22] ومصيرها؟! ومن تشبث بحبل الله مخلصاً، فقد لحق بخلَّص أوليائه الذين
{ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62].