وإنما دبَّر من المعارف والحقائق المترتبة على الإيجاد والإظهار، وقدر للعروج والصعود ما قدر لحِكم ومصالح استأثر بها سبحانه في غيبه، ولم يطلع أحداً عليها؛ إذ { ذٰلِكَ } الذات البعيد ساحة عز حضوره عن أن يحوم حوله إدراك أحد من مظأهره ومصنوعاه { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } الذي لم يتعلق به علم أحد سواه { وَٱلشَّهَادَةِ } المنعكسة مه حسب تجلياته الجمالية والجلالية { ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه بأن يتصرف فيه كيف يشاء إرادةً واختياراً { ٱلرَّحِيمُ } [السجدة: 6].
{ ٱلَّذِيۤ } وسعت رحمته كلما لاحت عليه بروق تجالياته؛ لذلك { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أي: قدر وجوده بعدما دخل في حيطة علمه، وقدرته وإرادته { وَبَدَأَ } من بينهم { خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ } أي: آدم، وقدر وجوده أولاً { مِن طِينٍ } [السجدة: 7] إذ هو أصل في عالم الطبيعة، قابل لفيضان آثار الفاعل المختار، مستعداً لها استعداداً أصلياً، وقابليةً ذاتيةً.
{ ثُمَّ } بعد تعلق إرادته سبحانه بإبقاء نوعه { جَعَلَ نَسْلَهُ } أي: قدر بصنعه وجود ذرياته المتناسلة المتكثرة، المختلفة منه على سبيل التعاقب والترادف { مِن سُلاَلَةٍ } فضله منفصلة مني، كائنة { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8] ممتهن مسترذل مستقذر؛ لخروجه عن مجرى الفضلة.
{ ثُمَّ } بعدما قدر خلقه أولاً من الطين، وثانيا من الماء المهين { سَوَّاهُ } سبحانه إظهاراً لقدرته؛ أي: قوَّم وعدَّ أركانه على أحسن التقويم { وَ } بعد تسويته وتعديله { نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } المضافة إلى ذاته المستجمع لجميع أوصافه وأسمائه تتميماً لرتبة خلافته ونيابته، واستحقاقه لمرآتية الحق، قابليته انعكاس شئونه وتطوراته ولياقته؛ للتخلق بأخلاقه { وَ } بالجملة: { جَعَلَ } وهيَّأ { لَكُمُ } أيها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد { ٱلسَّمْعَ } لتسمعوا بها آيات التوحيد، ودلائل اليقين والعرفان { وَٱلأَبْصَارَ } ليشاهدوا بها آثار القدرة والإرادة الكاملة المحيطة بذرائر الأكوان { وَٱلأَفْئِدَةَ } المودعة فيكم؛ لتتأملوا بها سريان الوحدة الذاتية على هياكل الأشباح الكائنة والفاسدة، وتتفكروا بها في آلاء الله ونعمائه المتوالية المتوافرة، ومع وفور تلك النعم العظام، والفواضل الجسام { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [السجدة: 9] وتصرفونها إلى ما مقتضياتها التي جبلها الحق لأجلها.
{ وَ } من غاية كفرانهم بنعم الله، ونهاية عمههم وسكرتهم فيه: { قَالُوۤاْ } أي: أُبي بن خلف ومن معه المنافقين بعدما سمعوا من البعث والحشر، ويوم العرش والجزاء مستبعدين مستفهمين، مكررين على سبيل المبالغة في الإنكار { أَءِذَا ضَلَلْنَا } وضمحللنا { فِي ٱلأَرْضِ } وصرنا من جملة الهباء المنبثة، المتلاشية المتناسلة التي لا تمايز فيها أصلاً { أَءِنَّا } بعدما كنا كذلك أيها العقلاء المجبولون على الدارية والشعور { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } مثلما كنا عليها قبل مؤتنا؟! كلا وحاشاـ وما لنا عود إلى الحياة الدنيا، سيما بعدما متنا وصرنا تراباً وعظاماً، وهم أيضاً ما يتقصرون من شيء بمجرد قولهم هذا { بَلْ هُم } من غلظ غشاوتهم وغطائهم { بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ } الذي رباهم بأنواع النعم في النشأة الأولى، وأفاض عليهم سجال اللطف والكرم في النشأة الأخرى، وقبض ملك الموت أرواحهم بأمر الله أياه { كَافِرُونَ } [السجدة: 10] منكرون جاحدون.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا بعدما سمعت قولهم: { يَتَوَفَّاكُم } ويستوفي أجلَكم أيها المنهمكون في الغفلة والضلال { مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } بإذن الله؛ لقبض أرواحكم { ثُمَّ } بعدما قبضتم في النشأة الأولى، وبعثتم من قبوركم أحياءً في النشأة الأخرى { إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة: 11] للعرض الجزاء.