التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ
٢٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ
٢٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٨
قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
٢٩
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ
٣٠
-السجدة

تفسير الجيلاني

{ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: أهل مكة إلى سبيل الرشاد، ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي: ك ثرة إهلاكنا واستئصالنا { مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ } أهل { ٱلْقُرُونِ } الماضية الهالكة، المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثورة، مع أن هؤلاء المعاندين { يَمْشُونَ } ويمرون { فِي مَسَاكِنِهِمْ } الخربة، ودورهم المندرسة حين ارتحالهم نحو متجارهم وما يعتبرون منها { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: في رؤية تلك المنازل والأطلال المغمورة، والبلاد المقهورة { لآيَاتٍ } دلائل واضحات، وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا، وشدة انتقامنا وقهرنا { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } [السجدة: 26] مقتضيات الآيات، ولا يتدبرون فيها حق التدبير والتفكر؛ حتى يتخلصوا عن أودية الضلالات، وأغوار الجهالات، ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات؟!.
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا، ووفور حكمتنا واختيارنا { أَنَّا } من مقام جودنا ولطفنا كيف { نَسُوقُ ٱلْمَآءَ } بالتدابير العجيبة، والحكم البديعة من تصعيد الأبخرة والأدخنة، وتراكم السحب منها، وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها { إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } التي قطع نباتها من غاية يبسها وجمودها { فَنُخْرِجُ بِهِ } أي: الماء الذي سقنا { زَرْعاً } أي: أنواعاً من الأقوات { تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } أوراقه وتبنه { وَأَنفُسُهُمْ } حبوبه وثمرته { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [السجدة: 27] أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة، فيستدلون بها على قدرتنا الكاملة، وحكمتنا البليغة البالغة بعدما سمعوا منك يا أكمل الرسل أن ربك يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟!.
{ وَيَقُولُونَ } مستهزئين معك، متهكمين: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ } والفصل الذي وعدتم به، أخبرونا وقته { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [السجدة: 28] في دعواكم؛ حتى نتهيأ ونتزود، ونؤمن به كماآمنتم؟.
{ قُلْ } يا أكمل الرسل في جوابهم: { يَوْمَ ٱلْفَتْحِ } هو يوم القيامة المعدة؛ لتنقيد الأعمال والحساب، فومئذٍ { لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } في النشأة الأولى مدة أعمارهم { إِيَمَانُهُمْ } فيها { وَلاَ هُمْ } حينئذٍ { يُنظَرُونَ } [السجدة: 29] ويمهلون؛ حتى يتداركوا ما فوَّتوا على نفوسهم طول عمرهم من الإيمان بالله، والامتثال بأوارمه ونواهيه، وتصديق الرسل والكتب، وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام.
وبعدما تمادوا في الغفلة الضلال، وبالغوا في العتو والعناد { فَأَعْرِضْ } يا أكمل الرسل { عَنْهُمْ } ولا تلتفت إلى هذياناتهم، واصرف عنان عزمك عن هدايتهم وإرشادهم بعدما تاهوا في تيه الغي والضلال، وأصروا عليها { وَٱنتَظِرْ } النصر والظفر، والغلبة عليهم { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } [السجدة: 30] أيضاً؛ ليغلبوا عليك ويظفروا. ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
خاتمة السورة
عليكم أيها السالك القاصد سلوك سبيل التوحيد، والناسك المجاهد مع أعدى عدوك الذي بين جنبيك، أعانك الله ونصرك على عدوك أن تتصبر وعلى متاعب العبودية، ومشاق التكاليف الواقعة في إتيان المأمورات الشرعية، وترك المألوفات الطبيعية، سيما فيما أُشكل أمره عليك، ودفعه عندك من انقهار أمّارتك وانزجارها، وانتقامك عنها مفوضاً أمورك كلها إلى ربك منتظراً إلى أن يغلبك الحق عليها بعدما وعدك به بأن يجعل سبحانه سلطانة أمّارتك مأمورة لك، مطمئنة بحكمك، راضية بجميع ما جرى عليها من سلطان القضاء بلا امتناع وإباء.
فلك حينئذٍ أن تتمكن في مقام الرضا والتسليم؛ حتى تصير مطمئنتك فانية مضمحلة، متلاشية بحيث لا يبقى فيها من هوية ناسوتها شيء، بل فنيت هويتها في هوية الحق مطلقاً، فحينئذٍ فزت بدوام أبدي، وبقاء سرمدي بلا عروض انقضاء وانصرام، وبلا لحوق انتهاء وانخرام.
هب لنا من فضلك جذبةً من هوية ناسوتنا، وتفنينا في هوية لاهوتك يا أرحم الراحمين.