وإن اعتذروا بك، وتبرءوا عما كانوا وصاروا عليه، قل لهم: {قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ} بعلمه الحضوري {ٱلْمُعَوِّقِينَ} المثبطين {مِنكُمْ} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلفين عنه في الحروب والمعارك، وهم المنافقون {وَ} يعلم أيضاً {ٱلْقَآئِلِينَ} منكم أيها المنافقون من أهل المدينة {لإِخْوَانِهِمْ} ممن في قلوبهم مرض من المؤمنين: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: قربوا أنفسكم نحونا؛ لتنجو عن المخاوف والمهالك {وَ} بعدما سمعوا منكم إخوانكم قولكم هذا {لاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ} أي: الحراب والقتال {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] أي: إتياناً قليلاً، بل يثبطون ويسرفون، ويعتذرون بالأعذار الكاذبة.
وبعدما أتوا ما أتوا إلا {أَشِحَّةً} أي: بخلاء {عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون المخلصون لما معكم من المعاونة والنفقة في سبيل الله، أو خوف الظفر وفوت الغنيمة، أو من خوف العاقبة، وإنما فعلوا ذلك قبل القتال {فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ} وظهرت أمارات القتال والحراب {رَأَيْتَهُمْ} أيها الرائي حين {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} من شدة خوفهم وخشيتهم {تَدُورُ} أي: تتحرك وتضطرب {أَعْيُنُهُمْ} أي: آماقهم في أحداقهم {كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ} أي: يحل ويدور {عَلَيْهِ مِنَ} أمارات {ٱلْمَوْتِ} ولاح عليه علامات السكرات {فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ} وزال الرعب والخشية، وانهزم العدو، واجتمعت الغنائم {سَلَقُوكُمْ} أي: جاءوكم مستلقين متسلطين عليكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ذربة قاطعة، باسطين أيديهم إلى الغنائم وقت قسمتكم، صائحين عليكم: لستم أولى منَّا وأحق بهذه الغنائم؛ لأنَّا شهدنا القتال معكم، بل نحن لا نقصِّر وأنتم قاصرون، فبم ترجحون أنتم علينا، وإنما سلقوكم بها حال كونهم {أَشِحَّةً} بخلاء {عَلَى ٱلْخَيْرِ} الذي وصل إليكم من الغنائم العظام؟!.
وبالجملة: {أوْلَـٰئِكَ} البعداء الهالكون في تيه النفاق والشقاق {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بتوحيد الله، ولم يخلصوا الإيمان به وبرسوله وكتابه، بل: إنما آمنوا واعترفوا باللسان؛ لحقن الدماء والأموال خداعاً ومكراً؛ ولذلك مكر الله المطلع على نيَّاتهم بهم {فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} الصالحة، وأبطلها عليهم بلا ترتيب الجزاء والمثوبات، كما لأعمال المخلصين من المؤمين {وَكَانَ ذَلِكَ} الإحباط والإبطال {عَلَى ٱللَّهِ} القادر لجميع ما ثبت في لوح قضائه {يَسِيراً} [الأحزاب: 19] سهلاً غير عسير عنده.
وإن استعسرتم أيها المحجوبون بالحجب الظلمانية الكثيفة، ومن كمال غيِّهم وضلالهم، ونهاية جبنهم ورعبهم من الأحزاب {يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} ولم ينهزموا، مع أنهم ذهبوا منهزمين إلى حيث لم يبق منهم أحد {وَ} هم من كمال محبتهم ومودتهم مع الأحزاب {إِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ} ويكروا بعد الفرار {يَوَدُّواْ} هؤلاء المنافقون إتيانهم إلى حيث تمنوا {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ} ظاهرون {فِي} البدو {ٱلأَعْرَابِ} أي: فيما بينهم، خارجون عن أظهر المسلمين، لا حقون بالكفرة، معدودون من عدادهم حتى {يَسْأَلُونَ} كل قادم من قبلكم {عَنْ أَنبَآئِكُمْ} وأخباركم، وما جرى عليكم أيها المؤمنون من الوقائع الهائلة والمصيبات المهولة {وَ} من كمال ودادتهم مع الكفرة: {لَوْ} فُرض أنهم {كَانُواْ فِيكُمْ} وقت كر الكفرة عليكم {مَّا قَاتَلُوۤاْ} من المنافقين من قبلكم مع أعدائكم {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 20] منهم، وهو أيضاً على سبيل الرياء والسمعة، ومقتضى ما زعموا من جلب النفع أو دفع الضر، لا لرضاء الله وإعلاء دينه ونصرة نبيه.