التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٢
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

تفسير الجيلاني

{ وَ } من كما قدرتنا ووفور حكمتنا { لَقَدْ آتَيْنَا } عبدنا { دَاوُودَ } المتحقق بمقام الخلافة والحكومة التامة { مِنَّا فَضْلاً } له، وامتناناً عليه مما لم نقض بأمثاله إلى سائر الأنبياء وهو أنَّا أمرنا الجمادات والحيوانات بإطاعته وانقياده إلى أن قلنا منادياً لها: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي } أي: أرجعي { مَعَهُ } التسبيح، وسيري معه حيث سار، ولا تخرجي عن حكمه، فانقادت له الجبال إلى حيث متى سبح، سُمع منها التسبيح والتذكير؛ وإلى حيث سار، سارت معه { وَ } كذا سخرنا له { ٱلطَّيْرَ } وصارت تنقاد لحكمه وأمره كسائر العقلاء، فيحكم عليها ويأمرها، فامتثلت بأمره وأطاعت بحكمه بلا منع وإباء { وَ } من جملة فضلنا إياه: إنَّا { أَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] بلا نار ومطرقة، حيث جعلناه ليناً في يده كالشمعة، يبدله كيف يشاء بلا تعب ومشقة.
وبعدما ألنا له الحديد أمرنا { أَنِ ٱعْمَلْ } يا دوود بإرشادنا وتعليمنا { سَابِغَاتٍ } دروعاً واسعات { وَقَدِّرْ } أي ضيق وكثف { فِي ٱلسَّرْدِ } والنسخ بقدر الحاجة، لا يمكن مرور السهام عنها أصلاً { وَ } بعدما آتيناه وأتباعه الملك والولاية التامة والنبوة العامة فضلاً وامتناناً له أصالةً ولأصحابه تبعاً، قلنا لهم تعليماً: { ٱعْمَلُواْ } يا آل داوود { صَالِحاً } من الأعمال والأخلاق مقبولاً عندي، مرضياً لدي { إِنِّي } بمقتضى علمي وإطلاعي { بِمَا تَعْمَلُونَ } من عموم الأعمال { بَصِيرٌ } [سبأ: 11] أنقد كلاً منها، أقبل صالحها وأرد فاسدهما.
{ وَ } أيضاً من مقام فضلنا وجودنا سخرنا { لِسُلَيْمَانَ } بن داوود، عليهما السلام { ٱلرِّيحَ } العاصفة، وجعلناها مسخرة تحت حكمه وتصرفه، بحيث تحمل كرسي سليمان وجنوده عليها وتسير إلى حيث أشار وشاء { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } أي جريها في الغداة مسيرة شهر { وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أيضاً كذلك { وَ } أيضاً من كمال جودنا إياه { أَسَلْنَا } وأذبنا { لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } أي: النحاس، فذاب في معدنه، ونبع منه نبوع العيون الجارية في كل شهر ثلاثة أيام، قيل: أكثر ما في الناس من النحس من ذلك.
{ وَ } سخرنا له أيضاً؛ عناية منها معه { مِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } مقهوراً تحت حكمه وتصرفه { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أمرهم سبحانه بإطاعته وانقياده بحيث لا ينصرفون ولا يستنكفون عن حكمه أصلاً { وَ } شرط معهم سبحانه تأكيداً لإطاعتهم إياه، أنه { مَن يَزِغْ } أي: يعدل ويمل { مِنْهُمْ } أي: من الجن { عَنْ أَمْرِنَا } المبرم المحكم إياهم، وهو إطاعتهم نبينا سليمان عليه السلام { نُذِقْهُ } في هذه النشأة { مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [سبأ: 12] لأنه قد وكَّل سبحانه على الجن ملكاً بيده سوط من نار، فمن مال منهم عن حكم سليمان ضربه به، فأحرقه ولا يراه الجني.
لذلك صارا مقهورين تحت حكمه، أمرهم ما يشاء حيث { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } أي: مساجد لطيفة وحصون حصينة وأماكن منيعة، إنما سمي بها، يحرب عليها ويتلجأ إليها في الشدة ولدى الحاجة، ومن جملة ما علموا له من المساجد الحصينة العجيبة: بيت المقدس، في غاية الحسن والبهاء وكمال المنعة، ولم يزل على عمارته عليه السلام إلى أن خربه بختنصر { وَتَمَاثِيلَ } هي الصور من الزجج ورخام ونحاص وصفر وشبهه، فكانوا يعملون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في البقاع الشريفة والمساجد والمعابد؛ ترغيباً للناس في دخولها والعبادة فيها وتنشيطاً، وقد عملوا له في أسفل كرسيه أسدين، وفي فوقه نسرين، فإذا أراد الصعود عليه بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى، وإذا تمكن عليه أظله النسران بجناحيهما، وحرمة التصاوير شرع مجدد { وَجِفَانٍ } أي: صحاف عظيمة وقصاع كبيرة وسيعة { كَٱلْجَوَابِ } أي: كالحياض الكبار، ومن غاية كبرها يقعد على كل جفنة عند الأكل ألف رجل { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } ثابتات على أثافيهن بحث لا تنزل عنها؛ لثقلها وكبرها، وقيل: أثافيها متصلة بها، وكانت يُرتقى إليها بالسلالم.
وبعدما أعطى آل داوود من الجاه والثروة والعظمة ما لم يعط أحداً من العالمين، قيل لهم من قبل الحق؛ تنبيهاً عليهم وحثاً لهم إلى مواظبة الشرك ومدوامة الرجوع نحو المفضل الكريم: { ٱعْمَلُوۤاْ } يا { آلَ دَاوُودَ } عملاً صالحاً مرضياً عند الله، ولا سيما اشكروا { شُكْراً } مستوعباً لجميع جوارحكم وجوانحكم وأوقاتكم وحالاتكم بحيث لا يشذ عنكم وقت لم يصدر عنكم فيها شكر { وَ } اعلموا وإن بالغتم في أداء شكر نعم الله وبالغتم بمقتضى المرتبة القصوى منه، ما أديتم حق شكره؛ إذ { قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] لأنه وإن استوفى واستوفر في أدائه إلى حيث يستوعب جميع أركانه وجوارحه وجوانحه وجميع خواطره وهواجس نفوسه وسره ونجواه، ومع ذل كلا يوفي حقه؛ لأن توفيقه وإقداره سبحاه عليه أيضاً نعمة مستحقة للشكر، مستدعية له لا إلى نهاية، ولذا قيل: الشكور من يرى نفسه عاجزاً عن الشكر؛ إذ لا يمكن الإتيان به على وجه لا يترتب عليه نعمة أخرى مستلزمة لشكر آخر.
ثم لما كان داوود عليه السلام أسس بيت المقدس ي موضع فسطاط موسى عليه السلام، فمات قبل تمامه، فوصى بإتمامه إلى سليمان عليه السلام، فاستعمل الجن فيه، فلم يتم أيضاً، إذا أُخبر من قِبل الحق بأجله، فتغمم غماً شديداً بعدم إتمام البيت، فأراد أن يعمِّي ويستر على الجن موته ليتموه، فأمرهم أن يعلموا له صرحاً من قوارير له باب، فعملوا له صرحاً كذلك.
فدخل عليه على مقتضى عادته المستمرة من التحنث والتخلي للعبادة شهراً وشهرين وسنة وسنتين، فاشتغل بالصلاة متكئاً على عصاه، فقبض وهو متكئ عليها، فبقي كذلك إلى أن أكلت الأرضة عصاه، فخرَّ، ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوماً وليلةً مقداراً منها، فقاسوا على ذلك، فعلموا أنه قد مات منذ سنة، وكان عمره حنيئذٍ ثلاثاً وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة، وابتدأ لعمارة البيت لأربع مضين عن ملكه.
أخبر سبحانه في كتابه هذا، وحكاه على الوجه الذي مضى، وأوجزه فقال: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ } أي: على سليمان { ٱلْمَوْتَ } فأخبرنا له بموته، فدعا نحونا بأن نعمِّي على الجن أمر موته؛ حتى يتموا عمارة البيت، فأعميناهم وسرتنا عليهم موته إلى أن تم عمارة البيت، وبعدما تم { مَا دَلَّهُمْ } وما هداهم { عَلَىٰ مَوْتِهِ } وما أخبرهم عنه { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } أي: الارضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } أي: عصاه، وهو متكئ عليها { فَلَمَّا } أكلتها انكسرت عصاه { خَرَّ } وسقط عليه السلام على الأرض، فحينئذ { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } أي: ظهر لهم وانكشفت عندهم أمر موته، وعلموا بعدما التبس الأمر عليه موته بخروره وسقوطه، فظهر حنيئذٍ للإنس أن الجن لم يكونوا مطلعين على الغيوب على ما زغموا في حقهم؛ لأنهم لو كانوا من المطلعين لعلموا موته أول مرة، ولم يعلموا مع { أَن } أي: أنهم؛ أي: الحق { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ } مطلقاً، لعلموا أمر موته حين وقع، ولو علموا { مَا لَبِثُواْ } واستقروا { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] الذي هو عذاب العمل المتضمن لأنواع المتاعب والمشاق، مع أنهم لم يرضوا به، ولكنهم لبثوا وعملوا سنة بعد موته، فظهر أنهم ما كانوا عالمين بالغيوب.