التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
٥
وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
٧
أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ
٨
أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٩
-سبأ

تفسير الجيلاني

{ وَ } ليجزي سبحانه أيضاً أسوأ الجزاء وأشد العذاب والنكال الكافرين { ٱلَّذِينَ سَعَوْا } واجتهدوا { فِيۤ } إبطال { آيَاتِنَا } الدالة على توحيد ذاتنا وكمال أسمائنا وصفاتنا حال كونهم { مُعَاجِزِينَ } قاصدين عجزنا عن إتيان الآيات البينات، منكرين لإيجادنا وإنزالنا إياها، مكذبين رسلنا الحاملين لوحينا، صارفين الناس عن تصديقهم وعن الإيمان بنا وبهم، وملتهم { أُوْلَـٰئِكَ } الأشقياء المردودون، المبعدون عن روح الله وسعة رحمته، المنهمكون في الغي والضلال { لَهُمْ عَذَابٌ } عظيم، أشد وأسوأ { مِّن } كل { رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5] وعقوب مؤلمة؛ لعظم جرمهم وسعيهم في إبطال آياتنا الناشئة عن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا، وإنما سعوا واجتهدوا في إبطال آياتنا؛ لجهلهم بنا وبها بما فيها من الهداية العظمى والسعادة الكبرى، وعدم تأملهم وتدبرهم في مرموزاتها ومكنوناتها؛ لذلك أنكروا بها اجتهدوا في إبطالها وتكذيبها جهلاً وعناداً.
{ وَيَرَى } يا أكمل الرسل العلماء العرفاء { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من قبلنا فضلاً منا إياهم المتعلق بأن الكتاب { ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } تأييداً لشأنك وترويجاً لأمرك { هُوَ ٱلْحَقَّ } المطابق للواقع، الحقيق بالمتابعة والإطاعة، الثابت المثبت نزوله عندنا بلا ريب وتردد { وَ } كيف لا يكون حقاً { يَهْدِيۤ } بأوامره ونواهيه أو تذكيراته الضالين المنصرفين عن جادة العدالة { إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ } الغالب، القادر المقتدر على انتقام المنحرفين عن منهج الرشاد { ٱلْحَمِيدِ } [سبأ: 6] المستحق في ذاته لجميع المحامد الكرمات، لولا تحميد الناس له وتمجيدهم إياه، وصراطه هو التوحيد الذاتي المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال، المنبئ عن إسقاط عموم الإضافات.
{ وَ } بعدما سمع المشركون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحوال الحشر والنشر والمعاد الجسماني، وأهوال الفزع الأكبر { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: بعض لبعض على سبيل الاستهزاء والتهكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفهمين مستنكرين، متعجبين من قوله: { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ } يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكروه لاستبعادهم قوله إنكارهم على مقوله، وإنما يتحدثون به بينهم؛ لغرابته { يُنَبِّئُكُمْ } بالمحال العجيب ويخبركم بالممتنع الغريب معتقداً إمكانه، بل جازماً بوقوعه ووجوده، وهو أنكم { إِذَا مُزِّقْتُمْ } وفُرقتم { كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي: تفريقاً بليغاً وتشتيتاً شديداً، إلى حيث صرتم هباء تذهب به الرياح { إِنَّكُمْ } بعدما صرتم كذلك { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [سبأ: 7] على النحو الذي كنتم عليها في حياتكم قبل موتكم بلا تفاوت، كما يتجدد الأعراض بأمثالها.
بعدما سمعتم قوله هذا، كيف تتفكرون في شأن هذا الرجل الذي يدعي النبوة والوحي والرسالة من عند الحكيم العليم، مع أنه صدر عنه أمثال هذه المستحيلات، أي شيء تظنون في أمره هذا؟!.
{ أَفْتَرَىٰ } وكذب عن عمد ونسبه { عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } تغريراً وتلبيساً على ضعفاء الأنام؛ ليقبلوا منه أمثال هذه الخرافات، ويعتقدوه رسولاً مخبراً عن المغيبات وعجائب الأمور وغرائبه { أَم بِهِ جِنَّةٌ } خبط واختلال يعرض في دماغه، فيتكلم بأمثال هذه الهذيانات هفوة بلا قصد وشعور بها، كما يتكلم بأمثاله سائر المجانين، وسماه وحياً وإلهاماً؟!.
ثم لما بالغ المشركون في قدحه صلى الله عليه وسلم وتجهيله، رد الله عليهم بأنه لا افتراء في كلامه صلى الله عليه وسلم وإخباره، ولا خبط في عقله؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم من أعقل الناس وأبعدهم عن الافتراء والمراء وأسلمهم عن الكذب وجميع الكدورات الطبيعية مطلقاً { بَلِ } الكافرون الضالون { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } والأمور التي أخبر الله بوقوعها فيها، ولا يصدقون أيضاً بما نطق به الكتب والرسل، مخلدون في النشأة الأخرى { فِي ٱلْعَذَابِ } المؤبد المخلد { وَ } متوغلون في { ٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } [سبأ: 8] عن الهداية أبد الآباد، لا نجاة لهم منها، ومن شدة غيَّهم وضلالهم تكلموا بأمثال هذه الهذيانات الباطلة بالنسبة إلى من هو منزه عن أمثالها مطلقاً.
ثم أشار سبحانه إلى كمال قدرته واقتداره على انتقام المكذبين ليوم الحشر والجزاء والمفترين على رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الجزاء من الخبط والجنون، وغير ذلك من الأمور التي لا يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم، فقال مستفهماً على سبيل التقريع والتوبيخ: { أَ } عموا وفقدوا أبصارهم أولئك المعاندون { فَلَمْ يَرَوْاْ } ولم ينظروا ويبصروا { إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } المحيط بهم خلفاً ووراء { وَٱلأَرْضِ } الممهدة لهم بين أيديهم، يتمكنون عليها ويتنعمون بمستخرجاتها وبما نزل عليها من السماء، ولم تتفكروا وتتأملوا أن إحياء الموتى أهون من خلق السماوات العلا على إيجادهما أكمل من القدرة على إعادة المعدوم، فينكروا قدرتنا عليها مع أنهم يرون منا أمثال هذه المقدورات، ولم يخافوا من بطشنا وانتقامنا، ولم يعلموا أنَّا من مقام قهرنا وجودنا وجلالنا { إِن نَّشَأْ } إهلاكهم واستئصالهم { نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ } كما خسفنا على قارون وأمثاله { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً } بالتحريك والتسكين على القراءتين؛ أي: قطعاً { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } فنهلكهم بها { إِنَّ فِي ذَلِكَ } البيان على وجه التقريع والتعبير { لآيَةً } دالة على قدرتنا وقهرنا على انتقام من خرج عن ربقة عبوديتنا { لِّكُلِّ عَبْدٍ } تحقق بمقام العبودية وفوض أموره كلها إليها { مُّنِيبٍ } [سبأ: 9] رجع إلينا وهرب عن مقتضيات قهرنا وجلالنا، بعدما عرف أن الكل منا بدأ، ويحولنا وقوتنا ظهر وعاد أيضاً كما بدأ؛ إذ منا المبدأ وإلينا المنتهى، وليس وراءنا مقصد ومرمى.