التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ
٣٧
وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٣٨
وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ
٣٩
لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٤٠
-يس

تفسير الجيلاني

{ سُبْحَانَ } القادر المقتدر القيوم المطلق المنزه عن الشيبه والنظير، المبترئ عن الشريك والوزير، والمستقل في التصرف والتدبير { ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ } وقدر الأصناف المتوالدة المتزايدة { كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ } من الشجر والنبات بأجناسهما وأنواعهما وأصنافهما { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } ذكورهم وإناثهم أنواعاً وأصنافاً وأشخاصاً، وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأصنافها وأنواعها { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها؛ إذ ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعاً؛ لأن الفردية والوترية والصمدية كوجود الوجود، والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية، لا شركة فيها للمصنوع أصلاً؛ إذ لا يتوهم التعدد والكثرة في الوجود الذي هو الواجب قطعاً.
{ وَ } أيضاً { آيَةٌ } عظيمة منا إياهم { لَّهُمُ } أن يتأملوا فيها ويستدلوا بها على كمال قدرتنا وأحكامنا وعلمنا وإرادتنا { ٱلَّيلُ } المظلم؛ أي: العدم الأصلي، حين { نَسْلَخُ } ننزع ونظهر { مِنْهُ } أي: من الليل المظلم { ٱلنَّهَارَ } المضيء؛ أي: نور الوجود الفائض منا إياهم حسب امتداد أظلال أسمائنا وصفاتنا عليهم { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [يس: 37] مستقرون في ظلمة العدم لولا إفاضة الوجود عليهم.
{ وَ } أيضاً من جملة آياتنا العظام: { ٱلشَّمْسُ } المضيئة، المشرقة على صفائح الكائنات كإشراق نور الوجود المطلق، الفائض على هياكل الموجودات حسب التجليات الإلهية { تَجْرِي } وتسري بلا قرار وثبات بمقتضى أمرنا وحكمنا { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } بقدرناه إياها منتهى ومنزلاً بمقتضى حكمتنا المتقنة المرتبتة على تجلياتنا الحِبِّية، المنتشئة من ذاتنا المتصفة بالأوصاف اللطيفة الجمالية { ذَلِكَ } الجري والسراية على هذا النظام الأبلغ الأبدع { تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ } القادر الغالب المتقدر على عموم المقادير { ٱلْعَلِيمِ } [يس: 39] باستعداداتها وقابلياتها.
{ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ } أي: عينَّا حسب قدرتنا الغالبة وحكمتنا البالغة لمرآة القمر الخالية عن النور الذاتي، القابلة لأن يكتسبه من قرص الشمس حسب المقابلة والمحاذاة بينهما، كذلك جعلنا له { مَنَازِلَ } متفاوتة في الوضع، فعند تمام المقابلة والمحاذاة يبدو بدراً كاملاً بلا نقصان في قرصه أصلاً، ثم ينقص شيئاً فشيئاً، يوماً فيوماً { حَتَّىٰ عَادَ } القمر في أخر المنازل الثمانية والعشرين التي وضت له في علم التنجيم والتقويم لاستفادته النور من الشمس { كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39] أي: كعذق النخل العتيق الذي عليه الشماريخ المعوجة المصفرة من طول المدى.
وكذا عيَّنا بمقتضى قدرتنا وحكمتنا لسير كل واحد منهما حسب الفصول الأربعة مقداراً من الزمان، بحيث لا يتخلف سيرهم عنه؛ لينتظم أمر المعاش؛ لذلك { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ } أي: لا يصلح ويتيسر لها { أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } أي: تسرع في سيرها إلى أن تدرك القمر، بل هي بطيئة السير، تقطع البروج الاثنى عشر في سنة والقمر سريع السير يقطعها في كل شهر { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } أي: لا يسع ويتيسر له أن يسبق ويدخل في الهار، بل لكل منهما مدة مخصوصة مقدرة من عند الحكيم الع ليم، لا يسع لهما التجاوز عنها { وَ } لذلك { كُلٌّ } أي: كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارات { فِي فَلَكٍ } مخصوص معين من الأفلاك السبعة المتسعة { يَسْبَحُونَ } [يس: 40] ويسيرون فيه ويدورون فيه على الانبساط والاستقلال، بلا توهم السبق والإدراك.