التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ
٧٤
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ
٧٥
فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٦
-يس

تفسير الجيلاني

ثم لما قال كفار مكة خذلهم الله: إن محمداً شاعر، وما جاء به مفترى إلى ربه من جملة الأشعار والقياسات المخيلة المشتملة على الترغيبات والتنفيرات والمواعيد والوعيدات، وإدِّعاء النبوة والوحي والمعجزة ما هو إلا قول باطل وزور ظاهر.
رد الله عليهم قولهم هذا على وجه المبالغة والتأكيد فقال: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } أي: ما جعلنا فطرته الأصلية واستعداده الجبلي قابلة على القياسات الشعرية المبنية على محض الكذب والخيال والمرغب أو المنفر، بل ما جعلناها إلا منزهة عنها، بريئة عن أمثالها، طاهرة عن أدناس الطبيعة مطلقاً، خالصة عن شوائب الإمكان ولوث الجهل والتقليد، متحلية باليقين والبرهان المنتهي إلى الكشف والعيان، ثم إلى الحق الذي هو منتهى الأمر في باب العرفان، بل { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } ويليق بشأنه وبشأن كتابه أن ينسب هو وهو إلى الشعر والشعراء اللذين هما أبعد بمراحل عن ساحة جلالهما، بل { إِنْ هُوَ } أي: ما الكلام المنزل على خير الأنام { إِلاَّ ذِكْرٌ } عظة وتذكير ناشئ عن العلم والحكمة المتقنة الإلهية مشير إلى التوحيد الذاتي، منبه عليه { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [يس: 69] مشتمل على أحكام ظاهره وآيات واضحة وبينات لائحة، محتوية على الأوامر والنواهي الإلهية، والحدود والقوانين الموضوعة بالوضع الإلهي بين عباده؛ ليوصلهم إلى طريق توحيده، منزلة على رسوله المستعد لحمله وقبوله.
{ لِّيُنذِرَ } أنت يا أكمل الرسل بالتبليغ، إن قرئ على صيغة الخطاب، أو القرآن إن قرئ على الغيبة { مَن كَانَ حَيّاً } بحياة الإيمان، موفقاً من عندنا باليقين والعرفان، معدوداً عن عداد السعداء في حضرة علمنا ولوح قضائنا { وَ } ألاَّ { يَحِقَّ ٱلْقَوْلُ } ويجب الحكم منا بلحوق العذاب { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [يس: 70] المصرين على الكفر والعناد المائتين بموت الجهل والإ نكار.
{ أَ } ينكرون أولئك المنكرون المشركون توحيدنا، ويكفرون نعمنا الفائضة عليهم على التعاقب والتوالي { وَلَمْ يَرَوْاْ } ولم يعلموا { أَنَّا } بمقتضى جودنا { خَلَقْنَا لَهُم } بمحض قدرتنا وحكتمنا { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } بلا صنع لهم وتسبب ومظاهرة { أَنْعاماً } أجناساً وأنواعاً وأصنافاً { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [يس: 71] متصرفون فيها، ضابطون لها، قاهرون عليها.
{ وَ } كيف لا يملكون ولا يتصرفون فيها بأنواع التصرفات مع أنَّا قد { ذَلَّلْنَاهَا } وسخرناها؛ أي: أجناس الأنواع مع كمال قوتها وقدرتها { لَهُمْ } ولم نجعلها آبية وحشية عنهم، بل مقهورة لهم مذللة لحكمهم؛ لذلك { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } أي: مراكبهم التي يركبون عليها كالإبل والخيل { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس: 72] من لحومها وشحومها.
{ وَ } مع ذلك { لَهُمْ فِيهَا } أي: في الأنعام { مَنَافِعُ } كثيرة من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونتائجها { وَمَشَارِبُ } من ألبانها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [يس: 73] نعم الله الفائضة عليهم، المهمة لهم، المقوِّية لأمزجتهم.
{ وَ } من علامة كفرانهم بنعم الله، ونسيانهم حقوق كرمه أنهم { ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الواحد الأحد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية أولياء وسموهم { آلِهَةً } مستحقة للعبادة والرجوع في المهمات وكشف الملمات { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [يس: 74] بهم وبشفاعتهم عن بأس الله وبطشه مع أنهم لكونهم جمادات { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } ولا يقدرون { نَصْرَهُمْ } أي: نصر عابديهم، بل { وَهُمْ } أي: العابدون { لَهُمْ } أي: للمعبودين { جُندٌ مُّحْضَرُونَ } [يس: 75] حولهم، حافظون لهم، مزينون إياهم بأنواع التزينات، وبالجملة: هم منسلخون عن مقتضى العقل بعبادتهم إياهم واتخاذهم أولياء شفعاء، وتسميتهم آلهة دون الله.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل حالهم وحال معبوداتهم { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } بأنك شاعر أو مجنون، وبأن كتابك شعر، ومن أساطير الأولين، وبأنك كاذب في دعوى الرسالة والنبوة، وبأن إخبارك بالعبث زور باطل { إِنَّا نَعْلَمُ } بمقتضى حضرة علمنا الحضوري { مَا يُسِرُّونَ } في ضمائرهم من الكفر والإنكار بتوحيدنا واستقلالنا بالتصرف في ملكنا وملكوتنا { وَمَا يُعْلِنُونَ } [يس: 76] من الفسوق والعصيان، والخروج عن مقتضى حدودها ظلماً وعدواناً، فجازيهم على مقتضى علمنا بهم وبأعمالهم.