التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
٤١
ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
٤٢
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٤٣
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٤٤
وَٱذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ
٤٥
إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ
٤٦
وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ
٤٧
وَٱذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ
٤٨

تفسير الجيلاني

{ وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } هو ابن عيص بن اسحاق، وامرأته ليّا بنت يعقوب، أضافه سبحانه إلى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه؛ حيث صبر على ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه، كما شكر على آلائه ونعمائه، ولم ينقص من إخلاصه جالتي السراء والضراء.
اذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب، وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك؛ كي يتذكروا من قصته، ويتخلقوا بشيء من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } الذي رباه بين الخوف والرجاء وأنواع العناء والعطاء؛ لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات ربه، قائلاً حين اضطراره إلى الالتجاء نحو ربه والتضرع إليه: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41] أي: نفخ فيَّ، وأحاط نفخه جميع أجزاء بدني؛ بحيث لم يبقَ فيَّ عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه، وعذاب شديد مؤلم مزعج، فاضطرني هجوم الأعداء والعناء وتزول أنواع المحن والبلاء إلى بث الشكوى نحوك يا مولاي، فأنا عبدك، وعلى عهدك ما استطعت، ما توفيقي إلا بك وثقتي إلا عليك، فارحمني بسعة رحمتك؛ إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك.
وبعدما استغاث إلينا مخلصاً مضطراً راجياً من الإجابة والقبول، أدركته العناية، وشملته الرحمة والكرامة من لدنَّا، حيث قلنا له ملهمين أياه، مستقبلين إجابته: { ٱرْكُضْ } واضرب { بِرِجْلِكَ } على الأرض، فركض امتثالاً للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية، ثم قلنا له تعليماً وتنبيهاً: { هَـٰذَا } الماء { مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ } يبرد ويبرأ ظاهر جسدك من الحرارات العارضة لبدنك من شؤم نفس عدوك الذي خلق من عنصر النار { وَشَرَابٌ } [ص: 42] شافٍ لباطنك من الذي أعرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج أخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤوم نفخه.
وبعدما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه، فشرب وبرأ من المرض ظاهراً وباطناً { وَ } بعدما حصل له الصحة والنظافة منَّا إياه، سقط نحونا ساجداً حامداً شاكراً، مناجياً معنا، مخلصاً متضرعاً { وَهَبْنَا لَهُ } تتميماً لكمال لطفنا وعنايتنا معه { أَهْلَهُ } أي: جميع من مات من أولاده بسقوط السقف عليهم { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } أي: وهبنا له إحساناً عليه وامتناناً منَّا مثل أهله مع أهله، وإنما فعلنا معه ذلك بعدما ابتليناه واخبترناه؛ ليكون { رَحْمَةً مِّنَّا } إياه { وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ص: 43] الذين يتذكرون بقصته، ويتخلقون بأخلاقه؛ ليفوزوا بما فاز.
وبعدما صححناه من الأسقام ووهبنا له أهله وماله، وزدنا عليه مثله تفضلاً منَّا إياه، أمرناه ثانياً تعليماً له بأن يتدارك قسمه وحلفه الذي حلف في مرضه، حين ذهبت امرأته ليا أو رحمة بنت إفرائيم بن يوسف لحاجة، فأبطأت، فحلف: إن برئت عن مرضي لأضربنك مائة جلدة.
{ وَ } قلنا له تعليماً: { خُذْ بِيَدِكَ } لحلفط { ضِغْثاً } حزمة مشتملة على مائة من إغصان صغار، فاضرب به - أي: بالضغث - امرأتك بحيث وصل أثر جميع ما في الحزمة من الأغصان إليها { فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } حينئذ في حلفك، فحللنا يمينك بها، عناية منَّا لك ولأمرأتك، فصارت رخصة باقية في حدود الشرائع إلى الآن.
وكيف لا نزيل شكواه، ولا نحسن إليه، ولا نجزيه أحسن الجزاء؟ { إِنَّا وَجَدْنَاهُ } عبداً { صَابِراً } لجميع ما هجم عليه من أنواع البلاء المتعلقة بماله وأولاده وبدنه { نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } عبدنا أيوب الصبور المسلِّم المفوض بلا جزع وتزعزع، فكيف يجزع ويتزعزع { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 44] رجَّاع الينا، متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته، طلباً للفناء فينا والبقاء ببقائنا.
روي أن أيوب عليه السلام كان متمولاً منعماً عظيماً، وكان له جميع أنواع متاع الدنيا، ومع ذلك شاكراً راضياً منفقاً في سبيل الله لفقراء الله طلباً لمرضاته، وبعدما بالغ في شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه، حسد عليه إبليس فقال مناجياً إلى الله: نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكر لك، ولو ابتليته بالفاقة لم يكن كذلك، فقال سبحانه: "سلطتك يا ملعون علا ماله" فقال: إبليس لعفاريت: أيكم أشد وأقوى على إتلاف ماله؟ فقام أحدهم وتحول إعصاراً من نار فأحرق إبله، وجميع من كان معها من الراعي، وصاح أحدهم منهم على أغنامه ورعاتها فهلكوا بالمرة، وآخر جاء بريح عاصفة على حرثه فنسفت ولم يبقَ منهما شيء.
فتمثل إبليس بصورة راعٍ، وآخر من أعوانه بصورة حارث، وأتياه وهو يصلي وقالا: أقبلت نار فغشيت إبلك فأحرقتها ومن معها، وصاح على غنمك شيطان فهلكت بالمرة، وهبت على حرثك ريح فنسفت وصار كأن لم يكن، فقال أيوب: الحمد لله إنها مال الله أعارينها وهو أولى بها، وقد كنت قدماً قد وطنت نفسي ومالي على القضاء.
وبعدما آيس إبليس من هذا الطريق قال: إلهي إنك متعته بأولاد فشكر لك لأجلها، فهل أنت مسلطي على أولاده؛ إذ هي من أعظم المصيبات لا يصبر عليها أحد من الناس؟ فقال: "نعم"، فأتاهم اللعين وهم مجتمعون في قصر عند معلم أ>يب، فلم يزل يزلزلها ويحركها حتى أسقطها عليهم فأهلكهم بالمرةن فتمثل اللعين بصورة معلهم فأتاه وهو صريخ جزوع، فقال: لو رأيت بنيك كيف عذبوا، ونكسوا إلىحيث سال دمهم ودماغهم وشقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم، فقال أيوب عليه السلام متأوهاً: ليت أمي لم تلدني، ثم أفاق واستغفر عن ضجرته سريعاً.
ورجع خاسئاً وقنط اللعني من هذا أيضاً، وقال: إليه إنما صبر أيوب عليه السلام على إهلاك أمواله وأولاده، ولازم توجهه نحوك؛ لأنك متعته بصحة البدن وسلامة الجسد، وهل أنت مسلطي على جسده؟ قال سبحانه: "سلطتك على غير لسانه وقلبه، فأتاه فوجده ساجداً، فنفخ في منخره نفخة اشتغل منها جسده، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، فوقعت فيه حكة فلم يزل يحكه حتى قرح جسده وأنتن لحمه، فأخرجه أهل القرية منها، ورفضوه من كان من أرحامه سوى امرأته "رحمة" فتمثل لها إبليس في صورة رجل، فقال لها: أين بعلك؟ هو ذلك يحك قروحه وتردد الديدان في جسده.
فلما سمعتها خيلت أنها كلمة جزع صدرت منه، فذكر لها تغريراً ما كان فيه من النعيم ثم أتى بسخلة، فقال لها: ادفعيها إلى أيوب عليه السلام ليذبح لي حتى يبرأ من السقم فجاءت مع السخلة تصرخ يا أيوب إلى متى يعذبك ربك أين الأموالم والأولاد والوجه الحسن؟! اذبح هذه واسترح، فقال أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك، أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد الصحة من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمنذ كم ابتلينا؟ قالت: سبع سنين وأشهراً، قال: ويلك ما أنصفت لنصبرن في هذا البلاء ثمانين سنة كما لنا في الرخاء، أمَا تستحين من الله؟! أمرتني أن أذبح لعدو الله، لا أذوق شيئاً مما تأتيني به بعد اليوم، اعزلي عني ودعي معي ربي.
فلما ذهبت امرأته ورأى أيوب ليسي عنده طعام ولا شراب ولا صديق، اضطر إلى بث الشكوى مع المولى فسقط ساجداً، وقال مناجياً صارخاً ضارعاً: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41] وسمع حنيئذ من الهاتف: ارفع رأسك فقد استجبت لك، فرفع رأسه وأوحي إليه من قبل ربه { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ص: 42].
{ وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { عِبَادَنَآ } الذين هم أجدادك وأسلافك { إِبْرَاهِيمَ وَ } ابنه { إِسْحَاقَ وَ } سبطه { يَعْقُوبَ } واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة؛ ليتعظ من سماعها ذوو الاعتبار من المؤمنين، ويقتدون بمآثرهم؛ لأنهم كانوا { أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ } [ص: 45] أي: ذوي القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم اليقين، ولهم التمكن في مقر التوحيد، والوصول إلى درجات التجريد والتفريد.
ولا بدَّ للذين يلونهم أن يقتدوا بهم، ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم، ويتصفوا بأوصافهم؛ كي يفوزوا بمعارفهم، وينكشفوا بمكاشفتهم ومشاهدتهم؛ لأنهم قدوة أصحاب التوحيد، وزبدة أرباب الشهود.
وكيف لا { إِنَّآ } من مقام عظيم جودنا معهم { أَخْلَصْنَاهُمْ } وجعلناهم مخصوصين { بِخَالِصَةٍ } أي: بخصلة خالصة صافية عن كدر التعلقات الناسوتية، خالية عن شوب مقتضيات القوى الشهوية البشرية، العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي { ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ص: 46] الدار الآخرة التي هي مقام التمكن في التوحيد والانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية، وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر.
{ وَ } بالجملة: { إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ } المنتخبين لحمل أعباء الرسالة { ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47] المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين؟ أي: أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ومرتبة اليقين.
{ وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل جدك { إِسْمَاعِيلَ } ابن إبراهيم الخليل، وتذكر تصبره ورجوعه ورسوخه في مقام التفويض والتسليم، راضياً بما جرى عليه من متقضيات ربه، مع أ،ه لم يبلغ الحلم { وَٱلْيَسَعَ } هو ابن أخطوب، استخلفه إلياس النبي على بني إسرائيل، ثم استنبئ { وَذَا ٱلْكِفْلِ } هو ابن عم اليسع المذكور، أو بشر بن أيوب، قيل: إنما لُقب به؛ لأنه فر إليه مائة من بني إسرائيل، فآواهم وكفلهم { وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص: 48] أي: كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود من الأخيار الأبرار، مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا مع زمرتهم.