التفاسير

< >
عرض

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠
-الزمر

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } أي: يتعجب المشرك المثبت لنا شركاء وأنداداً من تهديدنا إياه بالنار وعذابها، فيظن أن من هو قائم على أداء العبادات، مواظب عليها { آنَآءَ ٱلَّيلِ } أي: في خلاله وأطراف النهار { سَاجِداً } متذللاً واضعاً جبهته على تراب المذلة من خشيتنا { وَقَآئِماً } على قدميه مدة متطاولة تعظيماً لأمرنا، مع أنه { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } أي: العذاب الأحق فيها بمقتضى جلالنا وسخطنا { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } على مقتضى لطفه وجلاله وجماله كهؤلاء الكفرة بالله، الجهلة بشأنه، المتخذين له سبحانه أنداداً ظلماً وزوراً، مع تعاليه عنه سبحانه.
وبعدما تفرست يا أكمل الرسل منهم هذا الظن والتسوية { قُلْ } لهم على سبيل التبكيت والإلزام، مستفهماً أياهم على سبيل التوبيخ والتقريع: { هَلْ يَسْتَوِي } المكلفون { ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ } الحق بذاته وأسمائه وأوصافه، ويعبدون له سبحانه بمقتضى علمهم به، وبأوامره ونواهيه { وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ذاته ولا شيئاً من أوصافه وأسمائه، ولا يعبدون له أيضاً؟ كلا وحاشا، من أين تتأتى المساواة، فشتان ما بين العالم والجاهل، والعابد والعاصي، إلا أنه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الزمر: 9] أي: ما يتذكر ويتعظ بأمثال هذه المواعظ والتذكيرات المنبهة على سرائر التوحيد، إلا أولو الألباب الناظرون إلى لُبِّ الأمور، المعرضون عن قشوره.
{ قُلْ } يا أكمل الرسل نيابة عنَّا منادياً لخلص عبادنا: { يٰعِبَادِ } أضافهم إلى نفسه اختصاصً وتكريماً { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } منكم بوحدة ذاتي وظهوري حسب شئوني وتطوراتي بمقتضى أسمائي وصفاتي، مقتضى إيمانكم التقوى عن مقتضيات الهوى { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } واجتنبوا عن محارمه ومنهياته، واتصفوا بمأموراته، واعلموا أنه { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } الأدب مع الله { فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا } التي هي نشأة الاعتبار والاختيار { حَسَنَةٌ } وبأضعافها وآلافها أيضاً في الآخرة التي هي دار القرار، فاعتبروا يا أولي البصائر والأبصار.
فعليكم الإتيان بالإحسان في كل حين وأوان وزمان ومكان { وَ } لا تفتروا عنه، وعن المواظبة عليه بتفاقم الأحزان وتلاطم أمواج الفتن في الأوطان؛ إذ { أَرْضُ ٱللَّهِ } المعدة لأداء العبادات والاشتغال بالطاعات { وَاسِعَةٌ } فسيحة، فعليكم الجلاء لأجل الفراغ والخلاء، فتهاجروا إليها متحملين ما لحقكم من الشدائد والمتاعب في الانتقال، صابرين على مفارقة الأوطان والخلان، ومصادفة الكروب والأحزان، واعلموا { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ } المتحملون لأنواع الشدائد والمشاق في طريق الإيمان { أَجْرَهُمْ } ويوفر عليهم الحسنات وأنواع المثوبات والكرامات { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] إلى توفية وتوفير لا يمكن ضبطه بالعد والإحصاء تفضلاً عليهم وتكريماً.
وفي الحديث صلوات الله على قائله:
"تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج، فيوفون بها أجورهم، ولا ينصب لأهل البلاء، بل يصب عليهم الأجر، وحتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل" .