وليس هذا التكذيب والجزاء المترتب عليه مخصوصاً بهؤلاء الكفرة المكذبين لك يا أكمل الرسل، بل كل من {كَذَّبَ ٱلَّذِينَ} مضوا {مِن قَبْلِهِمْ} من المشركين رسلهم المبعوثين إليهم {فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ} فجأة {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [الزمر: 25] مقدماته وأماراته أصلاً.
{فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ} المنتقم منهم {ٱلْخِزْيَ} أي: الذل والهوان، والخيبة والخسران {فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ} المعد لهم فيها {أَكْبَرُ} أي: أشد وأفزع {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26] شدته وفطاعته لما ارتكبوا ما يؤول إليه ويوقعهم فيه.
{وَ} اللهِ {لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} الناسين عهودنا ومواثيقنا {فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ} المتكفل لأهداء عموم الضالين {مِن كُلِّ مَثَلٍ} ينبههم على معالم الدين ومراسم التوحيد و اليقين {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] رجاء أن يتعظوا بما فيه، ويتفطنوا بسرائره ومرموزاته.
مع أن جعلناه {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أوضح بياناً، وأعظم شأناً، وأجل تبياناً وبرهاناً {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: بلا اختلال واختلاف في معناه، موجب للتردد والالتباس والشك والارتياب {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28] عن محارمنا، ويحذرون عما نهيناهم عنه، ومع ذلك لم يتقوا، بل لم يتنبهوا ولم يتفطنوا أصلاً.
ولهذا {ضَرَبَ ٱللَّهُ} ضرب المطلع على جميع ما في استعدادات عباده وقابلياتهم {مَثَلاً} موضحاً لحال الموحد منهم والمشرك، وشبه كلتا الطائفتين برجلين مملوكين {رَّجُلاً} مملوكاً {فِيهِ شُرَكَآءُ} أي: له أرباب متشاركون فيه، كلهم {مُتَشَاكِسُونَ} أي: مشتاخصون متخالفون في استخدامه، متنازعون في شأنه، يتجاذبونه على مقتضى أهويتهم وأمانيهم بكمال الاستيلاء الغلبة، هذا مثل المشركين بالنسبة إلى معبوداتهم الباطلة.
{وَرَجُلاً} أي: مملوكاً آخر {سَلَماً لِّرَجُلٍ} أي: مسلماً مخصوصاً لمالك فقط بلا شوب شركة فيه، ونزاع في أمره، هذا مثل الموحد بالنسبة إلى ربه الواحد الأحد الصمد، الذي لا تعدد فيه ولا كثرة أصلاً {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} ويتماثلان {مَثَلاً} هذان الرجلان المملوكان {ٱلْحَمْدُ للَّهِ} الذي لا شركة في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، بل ولا نزاع لأحد في حكمه، يفعل ما يشاء بالإرادة والاختيار، ويحكم ما يريد بالاستقلال {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] وحدته واستقلاله في التصرفات الواردة، باعتبار شئونه وتطوراته، لذلك يشركون به غيره ظلماً وجهلاً.