التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
١٣
فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ
١٤
-غافر

تفسير الجيلاني

ثم أشار سبحانه إلى تفضيح من كفر بالله، وكذَّب بما نزل من عنده من الأوامر والنواهي الجارية بمقتضى وحيه على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الأولى، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله وأنكروا بوحدة ذاته وسريان وجوده الواحداني الذاتي على جميع مظاهر الكائنات حسب شئون الأسماء والصفات، بأن أشركوا فيه سبحانه، وأثبتوا وجوداً لغيره، وادعوا ترتب الآثار عليه { يُنَادَوْنَ } في الطامة الكبرى، والنشأة الأخرى حين ظهر الحق، واستقر على مقر العز والتمكين، وانقهر الباطل الزاهق الزائل، واضمحل التلون والتخمين { لَمَقْتُ ٱللَّهِ } أي: طرده وتحريمه لكم اليوم { أَكْبَرُ } وأفظع { مِن مَّقْتِكُمْ } وتحريمكم { أَنفُسَكُـمْ } من موائد لطفه وإحسانه سبحانه.
وذلك { إِذْ تُدْعَوْنَ } أي: وقت دعوة الأنبياء والرسل إياكم بإذن الله ووحيه { إِلَى ٱلإِيمَانِ } به سبحانه وبتوحيده { فَتَكْفُرُونَ } [غافر: 10] حينئذ، وتسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتكم الباطلة جهلاً وعناداً، بل تشركون له غيره في الألوهية والوجود، وتعبدون له كعبادته سبحانه.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من النداء الهائل المهول { قَالُواْ } بلسان استعداداته متحسرين متضرعين: { رَبَّنَآ } يا من ربانا على فطرة معرفتك وتوحيدك، فكرناك وأشركنا بك غيرك، قد ظهر لنا اليوم حقية ما ورد علينا من قبل بعدما { أَمَتَّنَا } وافنيتنا في هوتك مرتين { ٱثْنَتَيْنِ } مرة في النشأة الأولى بانقضاء الأجل المقدرمن عندك، ومرة في النشأة الأخرى بعد النفحة { وَ } كذا { أَحْيَيْتَنَا } وأبقيتنا ببقائك مرتين { ٱثْنَتَيْنِ } مرة عند حشرنا من أجداث طبائعنا، ومرة بعد النفخة الثانية للعرض والجزاء.
وبعدما لاح علينا من دلائل توحيدك وكمال قدرتك ما لاح { فَٱعْتَرَفْنَا } الآن { بِذُنُوبِنَا } التي صدرت عنَّا من غاية غفلتنا وجهلنا بك وبقدرتك، ووحدة ذاتك واستقلالك في آثارك الصادرة عنك { فَهَلْ } لنا اليوم مجال { إِلَىٰ خُرُوجٍ } من عذابك الذي أعددت لنا بمقتضى عدلك حسب جرائمنا وآثمانا { مِّن سَبِيلٍ } [غافر: 11] إلى الخلاص والنجاة منه.
ثم بعدما تضرعوا من شدة هولهم وفظاعة أمرهم ما تضرعوا، نودوا من وراء سرادقات القهر والجلال: { ذَلِكُم } أي: العذاب الذي أنتم فيه { بِأَنَّهُ } أي: بسبب أنه { إِذَا دُعِيَ } وذكر { ٱللَّهُ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { وَحْدَهُ } أي: على صرافة وحدته، واستغنائه عن العالم وما فيه { كَـفَرْتُمْ } وأنكرتم وجوده وكمال أوصافه وأسمائه، وكذبتم رسله المبعوثين إليكم للتبليغ والتبيين { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ } ويثبت له شركاء { تُؤْمِنُواْ } وتقروا بالشركاء، وتعتقدوا وجودها، وتصدقوا من تفوه بها { فَٱلْحُكْمُ } المحكم والقضاء الحتم المبرم الآن { للَّهِ } المنزه ذاته عن أن يتردد فيه أو يشرك { ٱلْعَلِـيِّ } الغني شأنه عن إيمان المؤمن وكفر الكافر { ٱلْكَبِيرِ } [غافر: 12] المتعال وحدة ذاته عن أن يحوم حوله إقدام الإقرار والإنكار.
وكيف تنكرون له سبحانه، وتشركون فيه مع أنه سبحانه { هُوَ } الله الكامل في الألوهية والربوبية { ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } الدالة على وحدة ذاته { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: سماء الأسماء المربية لكم من لدنه { رِزْقاً } صورياً ومعنوياً تتميماً لتربيتكم وتكميلكم { وَمَا يَتَذَكَّرُ } ويتعظ منكم بآياته { إِلاَّ مَن يُنِيبُ } [غافر: 13] إليه، ويرجع نحوه طالباً الترقي من حضيض التقليد والتخمين إلى ذروة التحقيق واليقين.
وإذا سمعتم كمال تربيته وتكميله سبحانه { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ } الواحد الأحد الصمد، وتوجهوا نحوه، واعبدوا حق عبادته أيها المكلفون بمعرفته وتوحيده حال كونكم { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } أي: الإطاعة والانقياد بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [غافر: 14] المكابرون إطاعتكم إياه، ورجوعكم إليه على وجه الإخلاص والختصاص.