التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
٣٤
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٣٥
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٦
وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
٣٧
فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ
٣٨
-فصلت

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والإرشاد لعموم العباد: { وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ } أي: لا تستوي جنس الحسنات بل هي متفاوتة في الحسن والبهاء { وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ } أي: وكذا لا تستوي جنس السيئات أيضاً بعضها أسوأ من بعض { ٱدْفَعْ } أيها السالك القاصد سلوط طريق التوحيد من جادة العدالة المنكشفة لأكمل افرسل وأفضل الأنبياء الهادين، المرشدين إلى بحر الوحدة الذاتية من جدوال الأسماء والصفات المترشحة منها حسب تموجاتها وتطوراتها المتفرعة على شئونها الذاتية { بِٱلَّتِي } أي: بالخصلة الحسنة التي { هِيَ أَحْسَنُ } الحسنات أسوأ السيئات، ودوام عليها، وتخلق بها حتت تستوي وتستقيم أنت على جادة العدالة الإلهية.
وبعد استقامتك وتحققك في هذه المرتبة { فَإِذَا ٱلَّذِي } كان { بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ } مستمرة ناشئة من القوى البهيمية من كلا الطرفين، صار صديقك وخليلك إلى حيث { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ } حفيظ لك، رقيب على حضانتك عن جميع ما يؤذيك ويرديك، فكيف يؤذيك؛ إذ هو { حَمِيمٌ } [فصلت: 34] مشفق كريم رءوف، رحيم لك، لا يخاصمك أصلاً.
{ وَ } لكن { مَا يُلَقَّاهَا } أي: الخصلة الحميدة الحسنة التي هي دفع الإساء بالإحسان، والمكروه بالمعروف، والقهر باللطف { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } أي: الأبطال المتحملون الذين صبروا على كظم الغيظ وتحمل المتاعب والمشاق المتعاقبة على نفوسهم؛ لتحققهم بمقام الرضا والتسلي بما جرى عليهم من القضاء، وتمكنهم في مقر التوحيد المسقط للإضافات، المستلزمة لأنواع الاختلافات والانحرافات { وَ } بالجملة: { مَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 35] ونصيب كامل من الكشف والشهود بأسرار الوجود بمقتضى الجود الإلهي.
{ وَ } بعدما أرشد سبحانه عموم عباده إلى طريق النجاة، وعلمهم الخصلة المحمودة المخلِّصة لهم عن أدوية الضلالات والجهالات، وأوصاهم بأا أوصاهم من الصبر والثبات على تحمل المشاق والمكروهات، خاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم بما خاطب حثاً له ولمن تبعه واسترشد منه على دفع ما يمنعهم عن الاتصاف بتلك الخصال الحميدة، ويعوقهم منها بالإضلال والإغواء، فقال: { إِمَّا يَنزَغَنَّكَ } ويعرضن عليك يا أكمل الرسل { مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ } المضل المغوي { نَزْغٌ } نخس يحرك غضبك وحمية بشريتك، ويوقعن فيك بوسوسته فتنة تبعثك على الإساءة والانتقام بترك تلك الخصلة المحمودة { فَٱسْتَعِذْ } بالله أي: بادر إلى الإعادة والالتجاء { بِٱللَّهِ } المقلب للقلوب، وفوض أمورك كلها إليه سبحانه على وجه التبتل والإخلاص؛ لتأمين من غوائله وتلبيساته { إِنَّهُ } سبحانه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لمناجاتك { ٱلْعَلِيمُ } [فصلت: 36] بحاجاتك وخلوص نياتك فيها.
ثم قال سبحانه رداً على المشركين، المتخذين شركاء الله من مظاهره ومصنوعاته ظلماً وزوراً، يعبدونهم كعبادته: { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي: من جملة الدلائل الداتلة على قدرة الصانع الحكيم { ٱلَّيلُ } المظلم { وَٱلنَّهَارُ } المبصر المضيء { وَ } كذا { ٱلشَّمْسُ } المشرق في النهار { وَٱلْقَمَرُ } والمنير في الليل، قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والتذكير: { لاَ تَسْجُدُواْ } أي: لا تعبدوا ولا تتذللوا أيها الأظلال الهالكة في شمس الذات { لِلشَّمْسِ } المستهلكة أمثالكم في شروق ذاته سبحانه { وَلاَ لِلْقَمَرِ } المستنير منها بالطريق الأولى.
بل { وَٱسْجُدُواْ } وتذللوا بوضع جباهكم وجوارحكم على تراب المذلة { لِلَّهِ } الواحد الأحد القدير العزيز { ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ } أي: أظهرهن، وأوجده من كتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة وزمان، بل بمجرد امتداد أظلال أسمائه وبسط عكوس صفاته على مرآة العدم، فعليكم الإطاعة والإنقياد إليه، والتوجه نحوه على وجه الإخلاص والاختصاص فاعبدوه { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ } سبحانه { تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37] أيها العابدون المخلصون.
وبعدما بلغت إليهم يا أكمل الرسل ما بلغت من الحق الحقيق بالقبول والاتباع { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ } واستنكفا عن سجود الله، وأصروا على ما هم عليه عن سجود الله، اعرض عنهم وعن نصحهم، ولا تبالِ لهم وبشأنهم { فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل من الملائكة المهيمين، المستغرقين بمطالعة جماله وجلاله، والمحدين المفنين هوياتهم في هوية الله { يُسَبِّحُونَ لَهُ } ويقدسون ذاته عن شوب الشركة مطلقاً، قولاً وفعلاً، وخاطراً وناظراً { بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي: في عموم الأوقات والحالات { وَهُمْ } من كمال شوقهم وتحننهم { لاَ يَسْئَمُونَ } [فصلت: 38] أي: لا يملون ولا يفترون منها أصلاً.