التفاسير

< >
عرض

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٢
شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
١٣
-الشورى

تفسير الجيلاني

وكيف لا أتوكل عليه ولا أنيب؛ إذ هو بذاته حسب شئونه وتطوراته { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ومظهرها من كتم العدم، ومدبر ما يتكمون بينهما من الطبائع والهيولي وصور المواليد، ومن جملة تدبيراته سبحاه: إنه { جَعَلَ } وخلق { لَكُم } أيها المجبولون على فطرة التوحيد وإبقاء لتناسلكم وتوالدكم { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ومن بني نوعكم { أَزْوَاجاً } أيضاً من جنسكم وصنفكم إبقاء لكم وإدامة لبقائكم { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ } أيضاً { أَزْواجاً } تربية لكم وتتميماً لمعاشكم.
وبالجملة: { يَذْرَؤُكُمْ } يبثكم ويكثركم { فِيهِ } أي: في عالم الظهور ونشأة الشهادة بهذا التدبير البديع، لتعلموا أو تعرفوا أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ } أي: ليس مثله سبحانه { شَيْءٌ } يناسبه في الوجود ويماثله في التحقق والثبوت، والمراد يقيناً بالمثل المنفي هو ذاته؛ أي: لا يماثله ذاته، فكيف غيره من قولهم: مثلك لا يبخل؛ بمعنى: أنت لا تبخل، والمراد: نفي التعدد عنه سبحانه مطلقاً على سبيل المبالغة والتأكيد، فثبت حينئذ ألا موجود سواه، ولا تحقق لغيره { وَ } متى ثبت هذا ظهر أنه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى: 11] أي: هو بذاته المنحصر على صفة السمع والبصر، وجميع الأوصاف الذاتية الكاملة الشاملة آثارها عالمي الغيب والشهادة.
إذ { لَهُ } لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الظاهرة في أظلال المظاهر والمجالي { مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: مفاتيح خزائن العلويات من الأسماء والصفات، والسفليات من مظاهر الطبائع، والمرايا العدمية القابلة لانعكاس شمس الذات من مشكاة الأسماء والصفات، هو بذاته { يَبْسُطُ } ويقبض { ٱلرِّزْقَ } الصوري والمعنوي { لِمَن يَشَآءُ } من أضلاله وعكوسه { وَيَقْدِرُ } ويقبض عمن يشاء منهم، وبالجملة: { إِنَّهُ } سبحانه بذاته حسب أسمائه وصفاته { بِكُلِّ شَيْءٍ } دخل تحت ظل وجوده بمقتضى فضله وجوده { عَلِيمٌ } [الشورى: 12] بعلمه الحضوري، لا يعزب عن حضوره شيء مما ظهر وبطن، وغاب وشهد.
ومن كمال استقلاله في تدابير مكله وملكوته وحيطة علمه وشمول قدرته: { شَرَعَ } أي: قضى ووضع { لَكُم } أيها الأظلال المنهمكون في بحر الحيرة والظلال { مِّنَ ٱلدِّينِ } القيوم والطريق المستقيم الموصل إلى توحيده { مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } أي: ديناً شرعه سبحانه ووضعه على نوح؛ إذ هو أول من ظهر على نشأة التدين والتشريع في طريق التوحيد، وهو الدين الموصل إلى توحيد الأفعال { وَ } الدين { ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } يا أكمل الرسل من كمال جودنا هو الدين الموصل إلى توحيد الذات، لذلك ختم ببعثتك أمر الرسالة والتشريع، وبعدما عين سبحانه مبدأ التوحيد ومنتهاه، أشار إلى ما بينهما من المراتب، فقال: { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } أي: والأديان التي وضعناها على هؤلاء المشاهير، وغيرهم من جماهير الأنبياء والرسل المتشرعة وغير المتشرعة هو الموصل إلى توحيد الصفات.
وبالجملة: وصينا لعموم ذوي الأديان { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ } المنزل إليهم، واستقيموا في الإطاعة والامتثال به { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي: لا تختلفوا في أصل الدين الذي هو التوحيد الإلهي، وإن كانت الطرق والأديان والمناهج نحوه مختلفة باختلاف ذوي المراتب المترتبة اختلافاتهم إلى شئون الحق وتجلياته، فلك يا أكمل الرسل أن تدعو الناس إلى توحيد الحق، وإن كان { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ } أي: شقَّ وعظم عليهم { مَا تَدْعُوهُمْ } أي: دعوتك إياهم { إِلَيْهِ } أي: إلى التوحيد الذاتي؛ إذ لم يعهد هذا من غيرك من الأنبياء والرسل الماضين، لذلك شق عليهم حسداً وغيظاً، فكيف يحسدون ويغيظون لك ولشأنك؛ إذ { ٱللَّهُ } العليم الحكيم المطلع على استعدادات العباد وقابلياتهم { يَجْتَبِيۤ } أي: يختار ويجذب { إِلَيْهِ } أي: إلى توحيده الذاتي { مَن يَشَآءُ } من المجبولين على فطرة التوحيد، { وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ } ويوفق عليه ويرشد نحوه { مَن يُنِيبُ } [الشورى: 13] إليه سبحانه إنابة صادرة عن محض الإخلاص والتبتل والتفويض والتوكل.