التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
٢٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢١
تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٢٢
-الشورى

تفسير الجيلاني

ثم لما أشار سبحانه إلى كمال تنزعه وتقدس ذاته عن وصمة النقصان مطلقاً، وإلى كمال ترحمه وتلطفه مع خُلَّص عباده، قال: { مَن كَانَ } منهم { يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } أي: يزرع في النشأة الأولى بذور الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة؛ ليحصد ما يترتب عليها من المثوبات والكرامات في النشأة الأخرى { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } ونضاعف ثوابها لأجله، ونعطه من اللذات الروحانية ما لا مزيد عليه تفضلاً منَّا وتكريماً { وَمَن كَانَ } منهم { يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا } ونوى نماء بذوره فيها { نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ } ولذاتها الباقية { مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20] لاختياره لذات الدنيا وشهواتها الفانية على ما في الآخرة من اللذات الروحانية؛ لذلك ما له حظ في الآخر ونصيب من لذاتها.
أهم بأنفسهم يحرمون نفوسهم من اللذات الأخروية والفتوحات الروحانية { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } من شياطين الجن والإنس ظاهرهم عليه؛ حيث { شَرَعُواْ } وزينوا { لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ } الباطل والديدنة الزائغة { مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } الحكيم المتقن في أفعاله المدبر لعموم مصالح عباده على مقتضى حكمته، ولم يأمر بوضعه واتخاذه لا بالوحي ولا بطريق الإلهام، بل إنما أخذوا ما أخذوا من تلقاء أنفسهم، وعلى مقتضى أهويتهم الباطلة؛ لذلك لم يتم لهم إلا الخيبة والخذلان والحسرة والحرمان.
{ وَ } بالجملة: { لَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ } والقضاء صاردة من الله بتأخير أخذهم لظلمهم وإمهال انتقالهم إلى يوم الجزاء { لَقُضِيَ } وحكم اليوم { بَيْنَهُمْ } أي: بين أهل الهداية والضلال، فيلحق لكل منهم جزاء ما اقترفوا من الحسنات والسيئات { وَ } بالجملة: { إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية، ومتابعة آرائهم وإخوانهم من الشياطين { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى: 21] في النشأة الأخرى، وهو حرمانهم عما أعد لنوع الإنسان المصور على صورة الرحمن من الكرامات السنية والمقامات العلية، لا عذاب أشد منه وأفزع.
ومن كمال حرمانهم وخسرانهم: إنهم حنيئذ { تَرَى } أيها الرائي { ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى الحدود عدواناً وظلماً { مُشْفِقِينَ } خائفين مرعوبين { مِمَّا كَسَبُواْ } أي: من لحوق وبال ما اكتسبوا من الآثام والمعاصي { وَ } الحال أنه { هُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } لاحق لهم، وما ينفعهم الإشفاق وعدمه؛ لانقضاء نشأة التدارك والتلافي.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: وترى أيضاً أيها الرائي المؤمنين الذين آمنوا بوحدة الحق حين أخبرهم الرسل ودعاهم إليه حسب استعداداتهم الفطرية وقابليتهم الجبلية { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: وأكدوا إيمانهم وتوحيدهم بصالحات أعمالهم وأخلاقهم؛ ليدل على توحيد الأفعال والصفات أيضاً، هم في النشأة الأخرة لكمال إطاعتهم وانقيادهم متنعمون { فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ } أي: منتزهات اليقين العلمي والحقي والعيني، ومع ذلك حاصل حاضر { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ } من اللذات المتجددة والفيوضات المترادفة من الفتوحات وأنواع الكرامات { عِندَ رَبِّهِمْ } الذي أوصلهم إلى كنف قربه وجواره { ذَلِكَ } الذي أعد لأرباب العناية والتوحيد { هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [الشورى: 22] والفوز العظيم الذي يستحقر دونه عموم اللذات والكرامات.