التفاسير

< >
عرض

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ
٩
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠
وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
١١
وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
١٢
لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
١٣
وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ
١٤
-الزخرف

تفسير الجيلاني

{ وَ } كيف لا يجري عليهم ما جرى على أسلافهم مع أنهم أعظم جرماً وأكبر إنكاراً منهم، ومن إنكارهم أنهم { لَئِن سَأَلْتَهُمْ } أي: مشركي مكة يا أكمل الرسل: { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } وأوجدهما من كتم العدم { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ } الغالب على الخلق والإيجاد { ٱلْعَلِيمُ } [الزخرف: 9] المطلع على سرائر ما أوجد وإظهر.
ومع اعترافهم بأخص أوصاف الفاعل المختار، وإقرارهم باستناد الأمور المتقنة إلى أوصافه وأسمائه، أنكروا وحدة ذاته، وأشركوا معه غيره عتواً وعناداً، قل لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في الإنكار والإصرار: كيف تنكرون وحدة الحق أيها الجاحدون المنكرون مع أن الله { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } تستقرون فيها، وتتوطنون عليها مترفهين متنعمين { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } لمعاشكم، تطلبون منها حوائجكم، وطرقاً تصلون منها إلى معادكم { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الزخرف: 10] بها إلى وحدة ربكم.
{ وَ } كيف تنكروف وجود موجدكم { ٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من عالم الأسباب { مَآءً } محيياً لأموات المسببات { بِقَدَرٍ } معتدل معتاد { فَأَنشَرْنَا بِهِ } أي: أحيينا وأخضررنا بإجراء الماء المحيي { بَلْدَةً } جافاً يابساً لا نبات فيها، ولا خضرة لها { مَّيْتاً كَذَلِكَ } أي: مثل إخراجنا النبات من الأرض اليابسة بإنزال الماء { تُخْرَجُونَ } [الزخرف: 11] وتنشرون؛ أي: الموتى حال كونكم موتى من قبورهم بنفخ الروح فيكم تارةً أخرى.
{ وَ } كيف تجحدون وتنكرون وجود الصانع الحكيم ووحدته مع أنه { ٱلَّذِي خَلَقَ } وأظهر { ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي: جميع أصناف المخلوقات من زوجات ممتزمجات { وَجَعَلَ لَكُمْ } تتميماً لأمور معاشكم وتسهيلاً لها { مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف: 12] أي تركبونه.
{ لِتَسْتَوُواْ } وتتمكنوا { عَلَىٰ ظُهُورِهِ } أي: ظهور ما خلق لكم من المراكب { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } كيف أفاض عليكم من النعم أصولها وفروعها، وتواظبوا على شركها أداء لحق شيء منها { وَتَقُولُواْ } عند استوائكم عليها: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي } أي: تنزه وتقدس عن شوب النقص والاستكمال ذات القرار العليم الحكيم، الذي { سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا } المركوب { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف: 13] مطيقين لتسخيره لولا إقراره وستخيره سبحانه لنا.
{ وَ } بالجملة: { إِنَّآ } في عموم أوصافنا وأحوالنا وذواتنا { إِلَىٰ رَبِّنَا } الذي أظهرنا بمد أظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا علينا، وربانا بمقتضى لطفه بالنعم الأوفى { لَمُنقَلِبُونَ } [الزخرف: 14] راجعون إليه، صائرون نحوه بعد انخلاعنا عن لوازم ناسوتنا وارتفاع غشاوة تعيناتنا عنَّا.
وإنما أوصله به تنبيهاً على أن العبد العارف لا بدَّ أن يكون في عموم انقلاباته وحالاته مسترجعاً إلى الله، عازماً نحو الفناء فيه، متذكراً لموطنه الأصلي ومقره الحقيقي.