{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل لمشركي مكة وقت { إِذْ قَالَ } جدك { إِبْرَاهِيمُ } الخليل صلوات الله عليه وسلامه { لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } المغمورين في التقليدات الموروثة لهم من أسلافهم، بعدما انكشف بحقية الحق ووحدته، وبطلان الآلهة الباطلة التي أثبتوها شركاء الله ظلماً وزوراً { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } [الزخرف: 26] أي: أنا برئ من معبوداتكم التي أنتم تعبدونها من دون الله الواحد الأحد، المستحق للعبادة والإطاعة.
{ إِلاَّ ٱلَّذِي } أي: ما أعبد معبوداً سوى الذي { فَطَرَنِي } أي: أظهرني وأوجدني بمقتضى حوله وقوته، ووفور علمه وحكمته { فَإِنَّهُ } سبحانه بمقتضى سعة رحمته وتوفيقه { سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 27] ويثيبني على جادة الهداية بأزيد مما هداني إيه من إجراء كلمة التوحيد على لساني.
{ وَجَعَلَهَا } سبحانه كلمة التوحيد { كَلِمَةً بَاقِيَةً } مستمرة { فِي عَقِبِهِ } أي: أولاد إبراهيم وذرياته إلى يوم القيامة موروثة لهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 28] إلى الله بكرامة هذه الكلمة، ويوحدونه حق توحيده؛ لذلك ما خلا زمان من الأزمنة من موحدي هذه الذرية، وممن يدعون منهم إلى الحق وطريق توحيده، وإن كان منهم أيضاً من يشرك بالله كمشركي قريش خذلهم اللهز
كما قال سبحانه في شأنهم: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ } المسرفين المعاندين معك يا أكمل الرسل { وَ } كذا متعت { آبَآءَهُمْ } كذلك بأنواع النعم وأصناف الكرم { حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي: الطريق الموصل إكلى التوحيد الذاتي { وَرَسُولٌ } مرشد كامل { مُّبِينٌ } [الزخرف: 29] مظهر موضح لهم بطريق الهداية والرشاد.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ } الحقيق بالاتباع { قَالُواْ } من فرط تعنتهم وعنادهم: { هَـٰذَا } الذي جاء به هذا المدعي؛ يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم { سِحْرٌ } وشعر اختلقه من تلقاء نفسه، ونسبه إلى ربه افتراء وتغريراً { وَ } بالجملة: { إِنَّا بِهِ } وبدينه { كَافِرُونَ } [الزخرف: 30] منكرون جاحدون.
{ وَقَالُواْ } إن كان نزوله من عند الله حقيقة { عَلَىٰ رَجُلٍ } ذي ثروة وجاه لائق بمرتبة النبوة والرسالة { مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ } أي: من إحدى القريتين؛ أي: مكة الطائف { عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] عند الناس بكثرة الأموال والأولاد والأتباع؛ ليكون له اليد والإستيلاء على سائر الناس.
إذ منصب النبوة منصب عظيم، يحتاج إلى ثروة ووجاهة ومكنة تامة ورئاسة ظاهرة، ولم يفهموا أن رتبة النبوة والولاية عبارةعن الغنى الذاتي المسقط لعموم الإضافات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية، وهو لا يكون إلا بالتعري عن ملابس الأكوان ولوازم الإمكان، والتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية.
{ أَهُمْ } من شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل، ونهاية إنكارهم بكتابك: { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ } بأخلاقهم السخيفة، وتدبيراتهم الركيكة { يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل، ويضعون رتبة النبوة والرسالة إلى من يقتضيه أوهامهم وخيالاتهم الباطلة ونفوسهم الخبيثة، بل { نَحْنُ } بوفور حكمتنا { قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } التي يحتاجون إليها { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ومع تدبيرنا إياهم مصالحَ معاشهم، لا يُحسنون تدبيرها فيما بينهم؛ ليصلح أمر ائتلافهم وتمدنهم فيها، فكيف يخوضون في مصالح العباد وتدبيراتها؟! ومن أين يتأتى لهم التفوة في الأوضاع الألوهية والتدابير الربوبية الناشئة عن كمال العلم والحكمة والإرادة الكاملة والقدرة الشاملة؟!.
{ وَ } من غاية قصورهم عن تدبيرات معاشهم { رَفَعْنَا } بمقتضى حكمتنا وتربيتنا إياهم { بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } بأن فضَّلنا بعضهم على بعضٍ في الرزق الصوري وغيره؛ ليكون لهم الكبرياء والاستيلاء على البعض الآخر { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي: يستعمل البعض الأغنياء أُجراء من البعض الفقراء، فيأمورهم بما قصدوا من الحوائج؛ ليتم أمر النظام والتمدن والتضام { وَ } بالجملة: { رَحْمَتُ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل، وهي رتبة النبوة والرسالة { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32] من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية؛ لاشتمالها على ضبط الظاهر والبواطن المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى.