التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ
٥١
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٢
يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ
٥٣
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٥٤
يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ
٥٥
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
٥٦
فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٥٧
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٥٨
فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ
٥٩
-الدخان

تفسير الجيلاني

ثم ذكر سحبانه على مقتضى سنته المستمرة مستقر المؤمنين المتقين ومنزلتهم في النشأة الأخرى، قال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } المجتنبين عن محارم الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم، بعدما انقرضوا عن نشأة الأختبار والابتلاء { فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [الدخان: 51] أي: مقر مأمور مصون عن طريان التغير والانتقال، محروس عن وصمة الغفلة والضلال، وبالجملة: { فِي جَنَّاتٍ } منتزهات من العلم والعين والحق { وَعُيُونٍ } [الدخان: 52] جاريات من أنواع المعارف والحقائق والكشوفات والشهودات، ومن كمال تلذذهم وترفههم باللذات الروحانية { يَلْبَسُونَ } من ألبسة أرباب الكشف والشهود في مراقي درجات القرب والوصول { مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } أي: مما رق وغلظ من عروض المعارف والحقائق إلى أن صاروا { مُّتَقَابِلِينَ } [الدخان: 53] في المحبة، متماثلين في الوجد والحضور.
{ كَذَلِكَ } ينكشف لهم الأمر بعد انقراضهم عن نشأة الدنيا وعالم الحجبات { وَ } مع ذلك القرب والوصول والوجد والحضور { زَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } [الدخان: 54] مصورة من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والخصائل السنية التي تأدبوا بها عند ربه في النشأة الأولى.
{ يَدْعُونَ } أي: يطالب بعضهم بعضاً حين تمكنهم واستقرارهم { فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ } ملذة لأزواجهم واستعداداتهم من الفواكه الحاصلة لهم من شجرة اليقين العلمي والعيني والحقي { آمِنِينَ } [الدخان: 55] من غوائل الشيطان وتسويلاته وتزييناته كما في النشأة الأولى، وبالجملة: هم أحياء عند ربهم بحياته الأزلية الأبدية، باقون دائمون ببقائه السرمدي، بحيث { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ } أي: طعم مرارة الموت المعطل عن التلذذ باللذات الروحانية { إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } التي ذاقوها عند افتراقهم عن لوازم نشأة الإمكان وانقطاعهم عن مقتضيات عالم الناسوت { وَ } بالجملة: بعدما وصلوا إلى فضاء الوجود، وحصلوا في عالم اللاهوت { وَقَاهُمْ } وحفظهم { عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [الدخان: 56] أي: عن عذاب بقعة الإمكان ونشأة الناسوت.
وبالجملة: إنما أعطوا ما أعطوا { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ } يا أكمل الرسل وبمقتضى كرمه وجوده بلا استحقاق منهم واستجلاب بطاعاتهم { ذَلِكَ } الذي بشر الله به عباده المتقين { هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [الدخان: 57] والفضل الجسيم، لا فوز أعظم منه وأعلى.
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } وسهلناه أي: المذكور في القرآن من المعارف والحقائق والرموز والإشارات التي خلت عنها سائر الكتب { بِلِسَانِكَ } وبناء على لغتكت { لَعَلَّهُمْ } أي: الأعراب { يَتَذَكَّرُونَ } [الدخان: 58] أي: يفهمونه ويتعظون بما فيه، كي يتفطنوا إلى كنوز رموزه وبعدما لم يؤمنوا بك ولم يقصدوا كتابك، فكيف التذكر والاتعاظ بما فيه، وبالجملة: { فَٱرْتَقِبْ } وانتظر يا أكمل الرسل ما ينزل عليهم من العذاب { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } [الدخان: 59] منتظرون أيضاً بما ينزل عليك من القهر والغضب على زعمهم الفاسد.
جعلنا الله من المتذكرين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المراقب لنفحات الحق ونسمات لطفه الموهبة من عالم قدسه في عموم أحوالك: أن تلازم بالتقوى عن محارم الله، والاجتناب عن منهياته المنافية لآداب العبودية، وتداوم على التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية، والاشتغال بالطاعات المقربة نحوه، والإعراض عن الملاهي الملهية عن التوجه إليه؛ لتكون من جملة المتقين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم والفضل الكريم.