{ وَ } بالجملة: { لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } حين احتياجهم إليك وإرادتهم صحبتك { حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } لهدايتهم وإرشادهم بمقتضى شفقة النبوة { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } وأولى من مبادرتهم واستعجالهم إلى النداء { وَٱللَّهُ } المطلع بما في ضمائرهم من الإخلاص { غَفُورٌ } يغفر زلتهم إن وقعت منهم أحياناً { رَّحِيمٌ } [الحجرات: 5] يرحمهم إن كانوا من ذوي الإخلاص مع الله ورسوله.
ثم نادى سبحانه عمو المؤمنين المخلصين نداء إرشاد وتعليم؛ تهذيباً لأخلاقهم عما لا يليق بشأن الموحدين، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } مقتضى إيمانكم بالله: حسن الظن بإخوانكم المؤمنين، فعليكم { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ } منحرف عن عدالة الإيمان والتوحيد { بِنَبَإٍ } وخبر على سبيل الافتراء والمراء { فَتَبَيَّنُوۤاْ } أي: تعرَّفوا وتفحَّصوا واستكشفوا عنه، ولا تبادروا إلى تصديقه؛ كراهة { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا } أذية وسوءاً بمجرد الظن الكاذب، مع أنكم { بِجَهَالَةٍ } أي: جاهلين بحاله { فَتُصْبِحُواْ } وتصيروا بعدما تصيبوا القوم البريء { عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ } من أذياتهم { نَادِمِينَ } [الحجرات: 6] محزونين مغتمين، كلما تذكرتهم تغممتم.
{ وَٱعْلَمُوۤاْ } أيها المؤمنون { أَنَّ فِيكُمْ } وبين أظهركم { رَسُولَ ٱللَّهِ } وسنته السنية، الموروثة له من ربه بعد مماته، فعليكم الإطاعة والمراجعة إليه حين حياته، وإلى سننه وشرعه في مطلق الأمور والعرض عليه وعليهما والمشاورة معه، فعليكم ألاَّ تكفلوه إلى قبول ما حسَّنت لكم نفوسكم من الأمور، فإنه { لَوْ يُطِيعُكُمْ } ويقبل قولكم { فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أتممتم وهلكتم في الإثم ألبتة، واستغرقتم فيه؛ إذ من مقتضى إيمانكم وانقيادكم له أن تفوضوا أموركم كلها إليه، وتستصوبوها منه، فإن صوَّب بعضها فيها، وإلا فلا تكلفوه؛ إذ منصب النبوة ومقتضى الحكمة يأبَى عن ذلك { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ } يعني: لا تعتذروا في إصابة البريء بمجرد القول الباطل والظن الفاسد بمحبة الإيمان وكراهة الكفر، فإنه سبحانه وإن حبب إليكم الإيمن { وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ } المؤدي إليه { وَٱلْعِصْيَانَ } المستلزم له، لكنه إنما حبب الإيمان على مقتضى الصدق والعدالة، وكرَّه الكفر الناشئ عن قصدٍ واختيار، لا أن ينسب إلى من ينسب عن بهتان وزور، فإنه سبحانه لا يرضى لعباده أمثاله، وبالجملة: { أُوْلَـٰئِكَ } المؤمنون، المجتنبون عن الزور والتهمة { هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } [الحجرات: 7] المقصرون على الرشد والهداية إلى صراط مستقيم، هو صراط التوحيد المشتمل المعتدل بين كلا طرفي الإفراط والتفريط.
وإنما صار رشادهم هذا { فَضْلاً } ناشئاً { مِّنَ ٱللَّهِ } المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم { وَنِعْمَةً } موهوبة لهم من عنده { وَٱللَّهُ } المحيط بعموم أحوال عباده { عَلِيمٌ } لحوائجهم المصلحة { حَكِيمٌ } [الحجرات: 8] في إفاضتها حسب المصلحة.
{ وَ } من جملة أخلاقكم أيها المؤمنون المعتدلون في مقتضى الإيمان: { إِن } كان { طَآئِفَتَانِ } كلتاهما { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } عند ثوران القوة الغضبية، وهيجان الحمية الجاهلية من كلا الجانبين بسبب الخصومة المستمرة { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } مهما أمكن الصلح على وفق الحكمة والعدالة { فَإِن بَغَتْ } أي: غوت وغلبت { إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ } بحيث أدت بغيها إلى الإفراط والظلم الخارج عن مقتضى العدالة الإلهية { فَقَاتِلُواْ } بأمر الله، مظاهرين مع الطائفة المغلوبة على الطائفة الغالبة { ٱلَّتِي تَبْغِي } وتغوي { حَتَّىٰ تَفِيۤءَ } وترجع { إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } وحكمه المترتب على القسط والعدالة { فَإِن فَآءَتْ } ورجعت عن بغيها وطغيانها { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } بعدما وقع ما وقع { بِٱلْعَدْلِ } المنبئ عن الحكمة ورعاية الغبطة بين الجانبين { وَ } بالجملة: { أَقْسِطُوۤاْ } واعتدلوا أيها المؤمنون في عموم أحوالكم وأحكامكم { إِنَّ ٱللَّهَ } المستوي على العدل القويم { يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [الحجرات: 9] من عباده.
وكيف لا تصلحون بينهما أيها المؤمنون المصلحون؛ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } الموقنون بوحدة الحق، المصدقون لرسوله المبيِّن لطريق توحيده { إِخْوَةٌ } في الدين القويم { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } بالعدل والإنصاف { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في صلاحكم هذا عن الميل والانحراف { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 10] لأجل عدالتكم وتقواكم.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مقتضى إيمانكم ترك المراء والاستهزاء بحيث { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ } منكم أيها الرجال القوامون المقيمون لحدود الله { مِّن قَوْمٍ } أمثالكم في القيام والتقويم؛ أي: أقوياؤكم ورؤساؤكم من أراذلكم وضعفائكم { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ } أي: المسخورون المرذولون { خَيْراً مِّنْهُمْ } أي: من الرؤساء الساخرين عند الله، كذا { وَلاَ } لا تسخر منكم { نِسَآءٌ } عاليات متعززات { مِّن نِّسَآءٍ } سافلات مستضعفات { عَسَىٰ أَن يَكُنَّ } أي: المستضعفات { خَيْراً مِّنْهُنَّ } أي من العاليات عند الله، وكن أقرب إلى رحمته سبحانه منهن { وَ } كذا { لاَ تَلْمِزُوۤاْ } أيها المؤمنين ولا تعيبوا { أَنفُسَكُمْ } أي: بعضكم بعضاً؛ إذ المؤمنون كنفس واحدة، فما لحق لهم وعليهم إنما لحق بهم وعليهم جميعاً { وَ } عليكم أن { لاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي: لا يدعوا بعضكم بعضاً باللقب السوء الدال على الذم والقبح، فإن النبذ إنما يستعمل في اللقب السوء، وإنما نهيتم عما نهيتهم؛ لأنه من جملة الفسوق والعصيان المستلزم لأنواع الخيبة والحرمان، المسقط للمروءة والعدالة المترتبة على الحكمة الإلهية.
وبالجملة: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ } المنبئ عن الخروج والانحراف عن صراط الحق سيما { بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي: بعد الاتصاف بالإيمان المنبئ عن كمال الاعتدال { وَ } بالجملة: { مَن لَّمْ يَتُبْ } ولم يرجع إلى الله بعدما صار عنه أمثال هذه الجرائم المذكورة هفوة { فَأُوْلَـٰئِكَ } البعداء المصرون على الغواية والطغيان { هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11] المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإليهة.