التفاسير

< >
عرض

جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٩٩
قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠٠
-المائدة

تفسير الجيلاني

إنما { جَعَلَ } وصيَّر { ٱللَّهُ } المستغني بذاته عن الأمكنة والحلول فيها مطلقاً { ٱلْكَعْبَةَ } الكعبة المعيننة في أرض الحجاز { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } أي: المكان الذي يحرم فيه أكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة، بل جميعها عند العارف؛ ليكون { قِيَٰماً لِّلنَّاسِ } يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها، وآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان { وَ } كذا صيَّر { ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } ميقاتاً لزيارتها وطوافها؛ ليقوموا فيها بتهيئة أسباب الفناء، وتخلية الضمير عن الميل إلى الغير والسّوى.
{ وَ } صيَّر سبحانه أيضاً { ٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } جبراً لما انكسر من رعاية نسكه، وأراد به؛ لئلا يتقاعدوا عن إتمامها { ذٰلِكَ } أي: جعلها وتصييرها مرجعاً لقاطبة الأنام، وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوه من كل مرمى سحيق، وفج عميق، إنما هو { لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ } المحيط بذرائر الأكوان { يَعْلَمُ } بالعلم الحضوري جميع { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: العلويات والأعيان الثابتة { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } السفليات التي هي الهويات الباطلة { وَ } ليعلموا { أَنَّ ٱللَّهَ } المنزه، المتعالي عن أن يحاط بمجلاه وتجلياته { بِكُلِّ شَيْءٍ } مما استأثر باطلاعه، وما يعلم جنوده إلا هو { عَلِيمٌ } [المائدة: 97] لا يعزب عن علمه وحضوره شيء، كلَّت الألسن عن تفسير صفتك، وانحسرت العقول عن كنه معرفتك، فكيف يعرف كنه صفتك يا رب؟.
وبالجملة: { ٱعْلَمُوۤاْ } أيها المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته { أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لا تغتروا بإمهاله له بمقتضى لطفه وجماله، بل احذروا، وخافوا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله { وَ } اعلموا أيضاً { أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } ستار لذنوب عباده المخلصين { رَّحِيمٌ } [المائدة: 98] لهم، يرحمهم بمقتضى جماله ونواله، عين عليكم أن تكونوا مقتصدين، معتدلين بين طرفي الخوف والرجاء؛ لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين.
فإن جادلوا معك يا أكمل الرسل، أهل البدع الأهواء الفاسدة في هذه الإلهامات والاختبارات الإلهية المترشحة من بحر الحكمة، قل لهم نيابة عنا: { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ } الهادي بإذن الحق { إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } أي: بلاغ ما أهدى به والقبول من الله، والتوفيق من عنده { وَٱللَّهُ } المطلع لضمائركم { يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } تظهرون، وتعلنون من الإيمان والإطاعة { وَمَا } كنتم { تَكْتُمُونَ } [المائدة: 99] من الكفر والبدعة.
{ قُل } يا أكمل الرسل { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } عند الله { وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أيها المتعجب { كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } إذ لا عبرة للقلة والكثرة بالجودة والرداءة في الأعمال { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } حق تقاته { يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } الناظرين بلب الأمور { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [االمائدة: 100] تفوزون من عنده فوزاً عظيماً، بعدما تجوّدون أعمالكم بالإخلاص والتقوى.