التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ
٢٠
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
٢١
لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
٢٢
وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
٢٣
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
٢٤
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ
٢٥
ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ
٢٦
قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥

تفسير الجيلاني

{ وَ } بالجملة { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } وأظهرناه من كتم العدم { وَ } نحن { نَعْلَمُ } منه حنيئذ { مَا تُوَسْوِسُ } وتحدث { بِهِ نَفْسُهُ } وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة، والمترتبة على حصة ناسوته، المقيدة بسلاسلا الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول، الممتزج بالوهم بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول، الممتزج بالوهم الجهول { وَ } كيف لا نعم من هواجس نفسه؛ إذ { نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16] أي: وريده، وهو مثل من القرب المفرط، كما قال: الموت أدنى لي من الوريد، وإضافة الحبل إليه للبيان، وبالجلمة: نحن أقرب إليه منه.
الوريدان: هما العرقان المنبثان من مقدم الرأس، المتنازلان من طرفي العنق، المتلاصقان عند القفا، المنتهيان إلى آخر البدن، وهما قوام البدن ومداره عليهما؛ إذ هما أقوى عالم هيكل الإنسان.
وبالجملة: نحن حسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت أقرب إليه من ناسوته، لا على توهم المساففةن ولا على طريق التركب والاتحاد والحلول والامتزاج، بل على وجه الظلية والانعكاس، ومع غاية قرب الحق إليه وكمال إحاطته إياه، وكَّل عليه الحفظة من الملائكة؛ ليراقبوا أحواله إلزاماً للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة.
اذكر يا أكمل الرسل: { إِذْ يَتَلَقَّى } ويتحفظ { ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } الموكلان عليه { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق: 17] أي: قاعد كل من الموكلين عن يمنه وشماله، مترقبين على أحواله وأعماله وأقواله، بحيث { مَّا يَلْفِظُ } ويتلفظ { مِن قَوْلٍ } يرميه من فيه { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } حفيظ عليه { عَتِيدٌ } [ق: 18] مهيأ، معد، حاضر عنده، غير مغيب على وجه لا يفوت عنه شيئاً من ملتقطاته.
{ وَ } هما يحفظانه ويرقبان عليه وقت؛ إذ { جَاءَتْ } وحضرت { سَكْرَةُ الْمَوْتِ } شدته وغمراته { بِالْحَقِّ } والحقيقة وظهرت علاماته، وانكشفت عليه أهواله وأماراته، قيل له حينئذ من قبل الحق: { ذَلِكَ } أي: الموت الذي ينزل عليك الآن { مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق: 19] أي: الموت الذي أنت تميل، وتفر عنه فيما مضى.
{ وَ } بعدما ذاق مرارة العذاب وقت سكرات الموت { نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } للبعث والحشر، فإذا هو حينئذٍ قائم، هائم ينظر، قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل: ألست تنظر وتتحير يا مسكين؟! { ذَلِكَ } اليوم الذي أنت فيه الآن { يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } [ق: 20] الموعود لك في دار الدنيا، وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه، وذقت من عذابه.
{ وَ } بعدما بعث الأموات من أجداثهم للحشر والجزاء { جَآءَتْ } وحضرت { كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس الطيبة والخبيثة { مَّعَهَا سَآئِقٌ } موكل، يسوقها إلى المحشر للعرض والجزاء { وَشَهِيدٌ } [ق: 21] من حفظة أعمالها وأحوالها، يشهد لها وعليها.
وبعدما حضر كل منهم بين يدي الله، قيل لكل منهم من قِبل الحق على سبيل الخطاب والعتاب: { لَّقَدْ كُنتَ } أيها المغرور { فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } اليوم، وانكسار عظيم من وقوعه؛ لذلك كذبت بالرسل والكتب، واستهزأت بالهداة الثقات، واستكبرت عليهم { فَكَشَفْنَا } اليوم { عَنكَ غِطَآءَكَ } الذي هو سبب غفلتك وإنكارك، وتعاميك عن الآيات والنذر، وهو ألفك بالمحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22] أي: صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حاداً حديداً نافذاً، إلا أنه لا ينفعك حينئذ حدة بصرك واكشافك بعد انقراض نشأة الاختبار والاعتبار.
{ وَقَالَ } له حينئذ { قَرِينُهُ } من الحفظة المراقب عليه في النشأة الأولى: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ق: 23] أي: هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعاب، هو الذي حفظته لك عندي، وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه.
وبعدما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى، أمر من قِبل الحق للسائق والشهيد أمراً وجوبياً حتماً: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } واطرحا فيها { كُلَّ كَفَّارٍ } مبالغ في الكفر والإنكار { عَنِيدٍ } [ق: 24] مبالغ متناه في العناد والاستكبار.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } متبالغ في المنع عن الإنفاق المأمور { مُعْتَدٍ } متجاوز عن الحق، مائل نحو الباطل { مُّرِيبٍ } [ق: 25] موقع لعباد الله في الشك والشبة في دينه القويم والصراط المستقيم الذي أنزله على رسوله المتصف بالخلق العظيم، وهو { ٱلَّذِي جَعَلَ } وأثبت { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الشرك مطلقاً { إِلَـٰهاً آخَرَ } واعتقده موجداً مثله، شريكاً في أفعاله وآثاره، وبالجملة: { فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } [ق: 26] بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي، وأصر على الشريك والتعديد.
وبعدما أراد الموكلان أن يبطشا به ويجراه نحو النار، أخذ يصرخ ونسيب شركه وضلاله إلى الشيطان المضل المغوي، وهو حاضر عنده، وبعدما سمع الشيطان منه ما سمع { قَالَ } له حينئذ { قرِينُهُ } أي: الشيطان، متضرعاً إلى الله، مناجياً معه: { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } وأضللته { وَلَـٰكِن كَانَ } في نفسه { فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ق: 27] بمراحل عن الهداية بمقتضى أهويته وأمانيه الفاسدة.
وبعدما اختصم الكافر وقرينه عند الله { قَالَ } الله سبحانه: { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ولا تنازعوا عندي؛ إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم } في كتبي وعلى ألسنة رسلي { بِٱلْوَعِيدِ } [ق: 28] الهائل، والعذاب الشديد على أهل الشرك والطغيان والكفر والكفران، فالحكم على ماجرى لا تبديل وتغيير.
إذ { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ } والحكم { لَدَيَّ } بل المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان على مقتضى العدالة والقسط الحقيقي { وَ } بالجملة: { مَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق: 29] أي: ليس من شأني الظلم والتعدي على عبيدي، بل هم يظلمون أنفسهم، فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم.
اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركينن، المصرين على العناد والإنكار { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ } المعدة لجزائهم، سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة: { هَلِ ٱمْتَلأَتِ } جهنم من شدة تلهبها وتسعرها بإطاق الله إياه: { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ق: 30] من المطروحين حتى يطرح ما بقي من أهلها إلى أن تمتلئ إنجازاً لما وعد لها الحق، نقول لجهنم:
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119].
{ وَ } اذكر أيضاً للمؤمنين المطيعين يوم { أُزْلِفَتِ } وقربت { ٱلْجَنَّةُ } الموعودة { لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ق: 31] بل بحيث يرون منازلهم فيها قبل دخولهمم من غاية قربها، وتمنون الوصل إليها.
فيقال لهم حيئنذ: { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ } رجاع، تواب إلى الله عن عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار { حَفِيظٍ } [ق: 32] لتوبته على وجه الندم والإخلاص، بلا توهم عودٍ ورجوع عليها أصلاً.
وبالجملة: { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } واجتنب عن محارمه منهياته، خائفاً من سخطه، راجياً من سعة رحمته في نشأة الاعتبار والاختيار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الأخرى، ورضي بالتكاليف الإلهية، ووطن نفسه بامتثال عموم الأوامر والنواهي ومطلق الأحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ق: 33] إلى الله، مخلصاً في إطاعة الله وإطاعة رسوله.
قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير: { ٱدْخُلُوهَا } أي: الجنة المعدة لأرباب التقوى { بِسَلاَمٍ } حال كونكم سالمين آمنين من العذاب
{ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [الأعراف: 49] { ذَلِكَ } اليوم الذي أنتم فيه الآن { يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } [34] في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود.
جعلنا الله من زمرتهم بمنِّه وجوده.
وبالجملة: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم، بل { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق: 35] على ما يسألون حسب استعداداتهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.