التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٤١
يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ
٤٢
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ
٤٣
يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ
٤٤
نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ
٤٥

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه تهديداً على من أعرض عن دينه ونبيه: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } أي: قبل قومك يا أكمل الرسل { مِّن قَرْنٍ } أي: أهله، مع أنه { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } قوة وقدرة، وأكثر أموالاً وأولاداً، كعاد وثمود وفرعون وغيرهم { فَنَقَّبُواْ } أي: انصرفوا وانقبلوا وساروا { فِي ٱلْبِلاَدِ } متمنين { هَلْ } يجدون { مِن مَّحِيصٍ } [ق: 36] مهرب ومخلص من بطش الله وحلول عذابه عليهم، فلم يجدوا بعدما استحقوا التعذيب والإهلاك، وبالآخرة هلكوا واستؤصلوا حتماً، فكذا هؤلاء المسرفون المعاندون سيهلكون كما هلكوا، وبالجملة: { إِنَّ فِي ذَلِكَ } القرآن العظيم، الذي نزل عليك يا أكمل الرسل { لَذِكْرَىٰ } عظة وتذكيراً وعبرة وتنبيهاً { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } يتفطن من تقلبات الأحوال وتطوراتها إلى شئون الحق وتجلياته الجمالية والجلالية حسب اقتضاء الذات بالإدارة والاختيار، وكمالات الأسماء والصفات { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } أي: يكون من أرباب الإرادة الصادقة الخالصة عن شوب السمعة ورعونات الرياء، ألقى سمعه إلى استماع كلمة الحق من أهله { وَهُوَ } حينئذ { شَهِيدٌ } [ق: 37] حاضر القلب، فارغ الهم، حديد الفطنة، صحيح الإرادة، خالص العزيمة.
ثم لما قال اليهود: إن الله خلق العالم في ستة أيام من الأسبوع، وبعدما عيّ من الخلق والإيجاد استلقى على العرش في يوم الست للاستراحة، رد الله عليهم فقال: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا } وأظهرنا { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } من الكائنات الممتزجة منهما { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ } مع ذلك { مَا مَسَّنَا } ولحقنا { مِن لُّغُوبٍ } [ق: 38] وصب وتعب وإعياء وفتور؛ إذ ذاتنا منزهة عن طريان أمثال هذه النقائض الإمكانية.
{ فَٱصْبِرْ } يا أكمل الرسل { عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } وينسبون إلى الله الصمد القدوس من أمثال هذه المفتريات الباطلة، الناشئة من جهلهم المفرط بالله وبمقتضى ألوهيته وربوبيته { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } بمقتضى توحيدك وتمجيدك إياه، ونزِّه ذاته عما يقول الظالمون الجاحدون، الجاهلون بقدره وعلو شأنه، وتوجه نحوه سبحانه في عموم أوقاتك وحالاتك سيما { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } [ق: 39] يعني: كلا طرفي النهار؛ إذ هما أوان الفراغ من مطلق الأشغال.
{ وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } في خلال تهجداتك { وَ } بالجملة: سبِّحه { أَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } [ق: 40] أي: عقب كل صلاة ذات ركوع وسجود.
ثم قال سبحانه آمراً لحبيبه صلى الله عليه وسلم { وَٱسْتَمِعْ } يا أكمل الرسل النداء والهائل { يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ } من قب الحق؛ لقيام الساعة والبعث { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ق: 41] بكل أحد، بحيث يسمعه بلاك كلفة وشبهة، فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن للحساب والجزاء.
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ } النفخة الثانية ملبسة { بِٱلْحَقِّ } تحققوا حنيئذٍ أن { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } [ق: 42] من القبور والبعث والنشور،
وبالجملة: { إِنَّا } من كمال قدرتنا وحكمتنا { نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ } في النشأة الأولى بالإدارة { وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } [ق: 43] أي: مصير الكل ومرجعهم إلينا في النشأة الأخرى.
اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر الحشر والميعاد { يَوْمَ تَشَقَّقُ } أي: تنشق وتتخرق { ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ } ويخرجون منها { سِرَاعاً } مسرعين { ذَلِكَ } أي: إخراجهم وخروجهم كذلك { حَشْرٌ } وبعث وجمع { عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ق: 44] سهل.
لا تستبعدوا ولا تستعسروا عن قدرتنا الكاملة أمثال هذا: إذ { نَّحْنُ أَعْلَمُ } وأحفظ { بِمَا يَقُولُونَ } أي: المنكرون، المشركون في سرائرهم ونجواهم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ } يا أكمل الرسل { بِجَبَّارٍ } تردعهم وتزجرهم عما هم عليه من الإنكار والإصرار، بل ما أنت إلا مذكر.
{ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ } أي: بوعيداته وإنذاراته { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45] إذ لا ينفع تذكيرك إلا للخائف منهم، ومن لم يخف ليس لك عليهم سلطان ليزعجهم إلى الإيمان، ويلجئهم إلى قبول الإسلام؛ إذ ما عليك إلا البلاغ والتذكير، والتوفيق من الله العليم الخبير.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المترقب لتوفيق الحق في عموم أحوالك - وفقك الله على سلوط طريق توحيده - أن تفرغ همك عما سوى الحق، وتصفي سرك عن مطلق الشواغل المنافية لصرافة الواحدة الذاتية، وكن في نفسك خائفاً من غضب ربك، راجياً من عفوه وغفرانه في عموم أعمالك التي جئت بها تقرباً إليه، مفوضاً أمورك كلها إلى مشيئته، وبالجملة: عليك أن تتذكر بوعيدات القرآن ومواعيده المستلزمة لصلاح الدارين، وفلاح النشأتين.
وإياك الإعراض عن الحق وأهله، والانصراف عن معالم الدين المنزل من عنده سبحانه، لتبيين مسالك توحيده.
جعلنا الله من زمرة الراسخين، المتمكنين في معالم الدين القويم بمنِّه وجوده.