التفاسير

< >
عرض

قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ
١
بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
٣
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤
بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ
٥
أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
٦
وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٧
تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٨
وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ
٩
وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
١٠
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ
١١
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ
١٢
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ
١٣
وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
١٤
أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
١٥

تفسير الجيلاني

{ قۤ } أيها الإنسان الكامل، القابل لخلعة الخلافة والنيابة الإلهية والقيم، القائم لتبليغ الوحي والإلهام المنزل عليك من عنده سبحانه على عموم الأنام، القائد لهم إلى توحيد الملك العلاّم القدوس السلام، ذي القدرة والقوة الكاملة الشاملة على أنواع الإنعام والانتقام { وَ } حق { ٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق: 1] العظيم المنزل من المجيد العظيم أنك يا أكمل الرسل لمرسل إلى كافة الخلق من الحق على الحق بالحق؛ لتبيين طريق الحق وتوحيده، وبعدما لم يجد المنكرون فيك يا أكمل الرسل شيئاً شيناً يدعوهم ويبعثهم إلى أنكارك وتكذيبك صريحاً، اضطروا إلى العناد والمكابرة.
{ بَلْ عَجِبُوۤاْ } واستبعدوا أولئك الحمقى الجاهلون { أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي: بعث إليهم رسول من جنسهم وبني نوعهم، ينذرهم عن أهوال يوم القيامة وأفزاعها مع أنهم منكرون للحشر وإرسال البشر جميعاً { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } المستبكرون بعدما سمعوا منك الدعو والإنذار من شدة إنكارهم واستبعادهم: { هَـٰذَا } أي: إرسال البشر إلى البشر، والإنذار من الحشر المحال كلامها { شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 2] وأمر بديع، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
ثم فصَّلوا ما أجملوا على سبيل التعجب والإنكار، فقالوا مستفهمين، ومستفيدين فيما بينهم، مستعيذين: { أَءِذَا مِتْنَا } أي: أنرجع ونعود أحياء كما كنا إذا متنا { وَكُنَّا تُرَاباً } وهباء منبثاً { ذَلِكَ } العود والرجوع { رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] عن الوقوع وقبول العقول.
ثم قال سبحانه ردعاً لهم وردّاً عليهم: وكيف تستبعدون وتنكرون عنا قدرتنا على بعث الموتى وإعادتهم أحياء كما كانوا؟! مع أنا { قَدْ عَلِمْنَا } على التفصيل والتحقيق { مَا تَنقُصُ } تأكل وتضمحل { ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ } أي: من أجزائهم وأوصالهم، وكيف لا نعلم { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق: 4] حاصر لتفاصيل الأشياء، حافظ لها، ألا وهو حضرة علمنا الحضوري ولوح قضائنا.
{ بَلْ } هو من غاية عمههم وسكرتهم، وكمال غيرهم وغفلتهم { كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ } الصدق المطابق للواقع، المؤيد بالبرهان الساطع والدليل القاطع، وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { لَمَّا جَآءَهُمْ } وحين بعث إليهم على الحق؛ لتبيين الحق وتمييزه عن الباطل؛ لذلك أنكروا البعث الذي جاء لتبيينه وللإنذار بما فيه من أنواع العقاب والعقوبات، وبالجملة:{ فَهُمْ } بمقتضى أحلامهم السخيفة مغمورون { فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق: 5] مضطرب، مخلوط، يلتبس عليهم حقيته صلى الله عليه وسلم وحقيّة ما جاء به من عند ربه؛ لذلك يضطربون في شأنه ويقولون تارة: إنه شاعر، وتارة: إنه ساحر وكاهن، وتارة: إنه مجنون مخبط، مختل العقل، يتكلم بكلام المجانين، إلى غير ذلك من المفتريات الباطلة.
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ } ولم يتفكروا حين أنكروا الحشر والبعث { إِلَى ٱلسَّمَآءِ } المطبقة المعقلة { فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } ورفعناها بلا أعمدة وأساطين { وَزَيَّنَّاهَا } بالكواكب المتفاوتة في الإضاءة والتنوير { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق: 6] نتوءٍ وفتوق، بل خلقناها ملساء متوازية السطوح متلاصقة الطباق.
{ وَ } لم ينظروا أيضاً { ٱلأَرْضَ } ولم يدبروا فيها كيف { مَدَدْنَاهَا } أي: مهدناها وبسطناها بكمال قدرتنا وحكمتنا { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا } وعليها { رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابت شامخات { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } صنف من النبات { بَهِيجٍ } [ق: 7] حسن كريم، تبهج بها عيون الناظرين وتسر قلوبهم.
وإنما خلقنا ما خلقنا من العجائب والغرائب؛ ليكون { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ } أي: عظة وعبرة دالة على كمال قدرتنا ومتانة حكمتنا وحكمنا { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [ق: 8] راجع إلينا، متوجهٍ نحونا بكمال التبتل والتفويض؛ ليتبصروا ويتذكروا بها كمال اقتدارنا واختيارنا في خلق عموم المرادات والمقدورات، ومن جملتها حشر الأموات، وبعثهم من قبورهم أحياء.
{ وَ } كيف يسع لأولئك الحمقى إنكار قدرتنا على الإعادة مع أنا { نَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً } كثير الخير والبركة { فَأَنبَتْنَا بِهِ } بعد تنزله على الأرض اليابسة الميتة { جَنَّٰتٍ } أي: حدائق ذات بهجةٍ وبهاءٍ ونزاهةٍ وصفاءٍ { وَ } لا سيما { حَبَّ ٱلْحَصِيدِ } [ق: 9] من البر والشعير وسائر الحبوب المحصودة للتقوت والتعيش.
{ وَ } أنبتنا به خصوصاً { ٱلنَّخْلَ } وجعلناها { بَاسِقَاتٍ } طوالٍ محتملاتٍ { لَّهَا طَلْعٌ } ثم ذو عنقود { نَّضِيدٌ } [ق: 10] منضود منضدٍ بعضه فوق بعض من كمال كثرته.
وإنما أنبتا ما أنبتنا؛ ليكون { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } يرتزقون بها ويشكرون منعهما ومبدعها { وَ } بالجملة: { أَحْيَيْنَا بِهِ } أي: بالماء المنزل من السماء { بَلْدَةً مَّيْتاً } يابسة جدبة، لا كلأ فيها ولا نماء { كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ } [ق: 11] أي: خروجهم من قبورهم أحياء بقدرتنا مثل ذلك، فمن أين ينكرون ويستبعدون أولئك الحمقى الجاهلون بقدرة العليم الحكيم؟!
وليس هذا التكذيب والإنكار ببدع من هؤلاء المكذبين المنكرين يا أكمل الرسل، بل قد { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } مثل تكذيبهم وإنكارهم { قَوْمُ نُوحٍ } أخاك نوحاً عليه السلام حين بعث إليهم وأنذرهم، ونهاهم عما هم عليه من الكفر والجحود والخروج عن مقتضى الحدود { وَ } كذا { أَصْحَابُ ٱلرَّسِّ } وهو بئر كانوا يسكنون حوله أخاك حنظلة بن صفوان عليه السلام { وَ } كذب { ثَمُودُ } [ق: 12] أخاك صالحاً عليه السلام، فعقروا الناقة المقترحة.
{ وَعَادٌ } أخاك هوداً عليه السلام { وَفِرْعَوْنُ } وملؤه أخاك موسى الكليم { وَإِخْوَانُ لُوطٍ } [ق: 13] سماهم إخوانه؛ لأنهم أصهاره، أخاك لوطاً عليه السلام.
{ وَأَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } أخاك شعيباً عليه السلام { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } وهو تبع الحميري، واسمه أسعد أبو كريب، كذبوا علماءهم وأئمتهم المصلحين وإرشادهم أمثال هؤلاء المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل { فَحَقَّ } أي: حل ولحق عليهم { وَعِيدِ } [ق: 14] الموعود لهم بتكذيبهم وإصرارهم، فهلكوا واستؤصلوا، فكذا هؤلاء المكذبون المسرفون سيهلكون ويستأصلون عن قريب، فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم ولا تستعجل لهم فسيرون ما يوعدون.
ثم قال سبحانه على سبيل الإنكار والاستبعاد على المنكرين المستعبدين بالحشر والبعث: { أَفَعَيِينَا } أي: ينكرون قدرتنا على الإعادة، وتظنون أن صرنا عاجزين { بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ } أي: الإبداء الإبداعي عن الخلق الثاني الإعادي، ويزعمون أن قدرتنا تفتر وتضعف عند الخلق الأول، بل ينتهي دونه، ولم يعلموا أن قدرتنا لكل مقدور من المقدورات في كل آن من الآناء على شأنٍ من الشئون الكمالية، بحيث لم يمض مثله، ولا يتأتى شبهه { بَلْ } يتفطن بمقتضى الفطرة الأصلية أن { هُمْ } في أنفسهم دائما { فِي لَبْسٍ } وخلع { مِّنْ } توارد { خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15] منا، وإيجادٍ متجدد من قبلنا في كل آن وزمان حسب قدرتنا واختيارنا.