وبعدما جرى منهم ما جرى، أخذ إبراهيم عليه السلام يسأل عن سبب نزولهم وإرسالهم { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } وشأنكم الذي جئتم لأجله { أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } [الذاريات: 31].
{ قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الذاريات: 32] أقبح الجرائم وأفحش المنكرات؛ يعنون: قوم لوط عليه السلام المبالغين في الفعلة الشنيعة، والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والفحش.
وإنما أرسلنا { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } متحجرة { مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33] يريد منه السجيل المركب من الحجر المسحوق مع الطين، { مُّسَوَّمَةً } معلمة كل منها باسم من رُمي بها { عِندَ رَبِّكَ } لتكون جزاء { لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] الذين أسرفوا في الخروج عن متقضى الحدود الإلهية، وعن الطريقة المعتادة لحكمة الإيلاد والاستيلاد.
ثم لما أردنا رجمهم وإهلاكهم، { فَأَخْرَجْنَا } بإذن ربنا { مَن كَانَ فِيهَا } أي: في تلك القرية { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 35] المصدقين بنبوة لوط عليه السلام ودينه، الممتثلين بالأوامر والنواهي الجارية على لسانه.
{ فَمَا وَجَدْنَا } وصادفنا { فِيهَا } أي: في تلك القرى بعدما فتشناها، وكشفنا عن أهلها { غَيْرَ بَيْتٍ } أي: سوى أهل بيت فقط { مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 36] المتصفين المجتمعين بين الإيمان والتسليم، وهو أهل بيت لوط عليه السلام.
وبالجملة: أهلكنا الكل { وَتَرَكْنَا } آثار هلاكهم واستئصالهم { فِيهَآ } أي: في الأرض التي تلك القرى فيها { آيَةً } علامة، وأمارة مستمرة إلى يوم القيامة { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [الذاريات: 37] النازل على أهل الجرائم والآثام، فيمتنعون عنها ويعتبرون بها.
{ وَ } تركنا أيضاً { فِي } إهلاك مكذبي { مُوسَىٰ } الكليم آية للمتذكرين المعتبرين، اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ } أصالة وأخاه معه تبعاً { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } الطاغي الباغي، المبلغ في العتو والعناد وأيدناه { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [الذاريات: 38] وحجة واضحة ولديل لائح.
{ فَتَوَلَّىٰ } وأعرض عن عدوته إلى الإيمان مستظهراً { بِرُكْنِهِ } أي: ملئه وجنوده الذين يتقوى بهم، ويركن إليهم في الخطوب والملمات { وَقَالَ } في جوابه من كمال بطره وعناده: هو { سَاحِرٌ } فيا أتى من الخوارق { أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 39] يعمل له الجن جميع ما يظهر منه الإرهاصات.
وبالجملة: كذبه، وأنكر عليه ونسب معجزاته إلى السحر وأعمال الجن { فَأَخَذْنَاهُ } غيرة منَّا وتقوية لرسولنا { وَجُنُودَهُ } المظاهرين له { فَنَبَذْنَاهُمْ } وإغرقناهم { فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ } حينئذ { مُلِيمٌ } [الذاريات: 40] نفسه بما يلام عليه من الكفر والعناد وأنواع العتو والفساد، نادم عن جميع ما صدر عنه وما ينفعه من الندم.
{ وَ } تركنا أيضاً آية عظيمة للمعتبرين { فِي } إهلاك قوم { عَادٍ } اذكر { إِذْ أَرْسَلْنَا } وسلطنا { عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] لا يثمر نفعاً سوى العقم والهلاك على وجه الاستئصال، مع أنهم أملوا نفعاً عظيماً فيها.
إذ { مَا تَذَرُ } وتترك { مِن شَيْءٍ أَتَتْ } وهبت { عَلَيْهِ } من الأنفس والمواشي { إِلاَّ جَعَلَتْهُ } وصيرته { كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] أي: اليابس البالي من النبات وأوراق الأشجار، وبالجملة: صيَّرتهم هباء منثوراً تذروه الرياح حيث شاءت.
{ وَ } كذا { فِي ثَمُودَ } وإهلاكهم آية عظيمة لأجل العبرة، اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ قِيلَ لَهُمْ } على لسان نبيهم حين أردنا أخذهم وإهلاكهم: { تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ } [الذاريات: 43] أي: تمتعوا وترفهوا ثلاثة أيام، فكذبوا المخبر، وأنكروا عليه خبره.
{ فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } وما تندموا وتضرعوا، من أن المناسب لهم هذا حينئذ { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } الهائلة المهولة صبيحة اليوم الرابع { وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الذاريات: 44] إتيانها عياناً، ولا يقدرون على دفعها.
بل { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ } وما قدروا { مِن قِيَامٍ } نهوض، وحركة عن أمكنتهم التي كانوا فيها عند ظهورها { وَ } بالجملة: { مَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } [الذاريات: 45] ممتنعين من عذابنا منتقمين منا.
{ وَ } مثل ما أهكلنا المذكورين، أهلكنا { قَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أي: قبل إهلاك هؤلاء { إِنَّهُمْ } أيضاً أمثال هؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد { كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [الذاريات: 46] خارجين عن مقتضى الحدود والإلهية بأنواع الكفر والفسوق والعصيان، لذلك أهلكناهم وبالطوفان، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } [الذاريات: 45].
ثم قال سبحانه إظهاراً لكمال قدرته على الإنعام والانتقام: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا } أي: كيف يسع لهم الإباء والامتناع عن مقتضيات قدرتنا، والخروج عن رقبة إطاعتنا وعبوديتنا، مع أنَّا بنينا السماء المرفوعة المحفوظة { بِأَييْدٍ } غالبة وقدرة كاملة { وَ } بالجملة: { إِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47] قادرون غالبون بالاستقلال والاختيار، لا يعارض فعلنا، ولا ينازع أمرنا وحكمنا.
{ وَٱلأَرْضَ } أيضاً { فَرَشْنَاهَا } ومهدناها بالاستقلال والاستيلاء التام { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 48] الباسطون نحن بلا مشاركة.
{ وَ } مثل ما خلقلنا العلويات فواعل مؤثرات، والسفليات قوابل متأثرات { مِن كُلِّ شَيْءٍ } من الأشياء الكائنة في بقعة الإمكان، وعرصة الزمان والمكان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } صنفين مزدوجين { لَعَلَّكُمْ } أيها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد، المؤيدون بالعقل المفاض المتشعب من العقل الكل { تَذَكَّرُونَ } [الذاريات: 49] فتعلمون أن الكل منه بدأ وإليه يعود، ولا شيء سواه موجود.
وبعدما ثبت أن ظهور الكل منه ورجوعه إليه سبحانه: { فَفِرُّوۤاْ } أيها العارفون الموحدون { إِلَى ٱللَّهِ } المسقط لعموم الإضافات من مقتضيات عالم الناسوت، وانخلعوا عن لوازم هوياتكم الباطلة وأنانياتكم العاطلة { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ } بمقتضى وحيه وإلهامه { نَذِيرٌ } أنذركم عما يعوقكم من سلوك طريق توحيده { مُّبِينٌ } [الذاريات: 50] مظهر لكم آداب الطريقة الموصلة إلى مقصد الحقيقة، التي هي الوحدة الذاتية الإلهية.
{ وَ } بالجملة: لا تجعلوا { لاَ تَجْعَلُواْ } ولا تتخذوا، ولا تعتقدوا { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد، المنزه عن التعدد مطلقاً { إِلَـٰهاً آخَرَ } مستحقاً للإطاعة والرجوع، مستقلاً في الوجود، وما يترتب عليه من الآثار { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [الذاريات: 51] أنذركم عن الوعيدان الهائلة العاجلة والآجلة، واللاحقة عليكم بالشرك والإشراك وأنواع الفسوق والعصيان.