التفاسير

< >
عرض

أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
١٥
ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٦
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
١٧
فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
١٨
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٩
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٢٠
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
٢١
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢٢
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
٢٣
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٥
قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ
٢٦
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ
٢٧
إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ
٢٨
فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ
٢٩
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ
٣٠
قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
-الطور

تفسير الجيلاني

وأنتم أيها المنهمكون في الطغيان وأنواع الكفران في سالف الزمان، كنتم نسبتم الوحي والإلهام إلى السحر والأوهام تأملوا الآن: { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا } الذي أنتم تطرحون فيها، وتعذبون بها كما زعمتم فيما مضى { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [الطور: 15] ولا تشعرون بها، كما كنتم لا تشعرون بالآيات الواردة في شأنها حينئذ.
وبالجملة: { ٱصْلَوْهَا } وادخلوا فيها، وبعد دخولكم { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } وعلى أي وجه تصيروا وتكونوا، لا مخلص لكم عنها، ولا مخرج لكم منها، بل { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } الصبر، وعدمه في عدم النفع والدفع { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 16] أي: ما تجزون إلا بما كسبتم لأنفسكم، وأعددتم لأجلها، فيلحقكم الآن وبال ما اقترفتم فيما مضى حتماً على مقتضى العدل الإلهي، فلا ينفعكم الصبر والاضطراب.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } المتحفظين نفوسهم عن محارم الله، المتحريزن عن إنكار آيات الله الواردة في الوعيد والوعيد، متلذذون { فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } [الطور: 17] أية جنات وأيُ نعيم: رياض الرضا ونعيم التسليم.
{ فَاكِهِينَ } متنعمين مسرورين فيها، مطمئنين راضين { بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } بمقتضى فضله وسعة جوده ولطفه { وَ } بما { وَقَاهُمْ } وحفظهم { رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [الطور: 18] أي: أهوالهم وأفزاعها.
فيقال لهم فيها على سبيل التبشير والتفريح: { كُلُواْ } من الرزق الصوري والمعنوي { وَٱشْرَبُواْ } بلا تنقيص وتكليف { هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 19] أي: بسبب صالحات أعمالكم وحسنات أفعالكم.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ } معدة لهم { مَّصْفُوفَةٍ } منضودة مرتبة وفق أعمالهم وأحوالهم ومقاماتهم.
{ وَ } بعدما تمكنوا على السرر مسرورين { زَوَّجْنَاهُم } وقرناهم استئناساً منا إيامهم { بِحُورٍ عِينٍ } [الطور: 20] مصورة من المعارف والحقائق المنكشفة لهم، المشهودة بعيون بصائهرم.
{ وَ } قرناهم أيضاً مع إخوانهم ورفقائهم من الموحدين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله، وانكشفوا بتوحيده { وَٱتَّبَعَتْهُمْ } ولحقتهم معهم { ذُرِّيَّتُهُم } أي: جميع ما انشعب، وتفرع منهم من أولادهم وأعمالهم الصادرة عنهم حال كونهم متصفين { بِإِيمَانٍ } يقين علمي وتصديق قلبي وصولهم إلى اليقين العيني والحقي، بل { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } أيضاً { ذُرِّيَّتَهُمْ } أي: مشاهداتهم، ومكاشفاتهم الواردة عليهم حسب مقاماتهم وحالاتهم بعد اتصافهم باليقين العيني والحقي.
{ وَ } بالجملة: { مَآ أَلَتْنَاهُمْ } ونقصنا عليهم { مِّنْ عَمَلِهِم } الناشئ منهم في طريق الهداية والرشاد { مِّن شَيْءٍ } نزر يسير، بل وفينا ووفرنا عليهم جزاء الكل مع مزيد عليها تفضلاً منَّا وإحساناً؛ إذ { كُلُّ ٱمْرِىءٍ } ذي هوية شخصية مجبولة لحكمة المعرفة، ومصلحة التوحيد { بِمَا كَسَبَ } من الأسباب { رَهَينٌ } [الطور: 21] مرهون مقرون لا ينفصل عنها.
بل { وَأَمْدَدْنَاهُم } تفضلاً وامتناناً منا إياهم، وتكريماً لهم { بِفَاكِهَةٍ } من المعارف والحقائق الواردة المتجددة آناً فآناً، حسب الشئون الإلهية وتجلياته والجمالية والجلالية { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } [الطور: 22] أي: يتقوت ويقوى به أشباحهم وأرواحهم.
{ يَتَنَازَعُونَ } ويتجاذبون { فِيهَا كَأْساً } من رحيق التحقيق، مع أنه { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } من ضول الكلام { وَلاَ تَأْثِيمٌ } [الطور: 23] من قبح الأفعال المستلزمة للآثام كما هو عادة الشاربين في الدنيا.
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } بكؤوس التحقيق ورحيق اليقين { غِلْمَانٌ لَّهُمْ } مصور من قواهم المدركة المملوكة لهم، المسخرة لنفوسهم المطمئنة، الراضية بمقتضيات القضاء الإلهي { كَأَنَّهُمْ } من غاية الصفاء عن كدر الهواء ورعونات الرياس { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور: 24] مصون محفوظ في أصداف أشباحهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } بطريق المسرة والانبساط { يَتَسَآءَلُونَ } [الطور: 25] عن أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم.
{ قَالُوۤاْ } أي: بعضهم في جواب بعض على وجه المذاكرة والمواساة: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي: قبل انكشافنا بسرائر التوحيد { فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [الطور: 26] خائفين عن بطشه وسخطه وسطوة سلطانه قهره وجلاله، راجين من سعة رحمته وموائد جوده وكرمه.
{ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } وهدانا إلى طريق التوحيد، وفقنا للعروج إلى معارج العناية والتحقيق { وَوَقَانَا } بلطفه { عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } [الطور: 27] أي: من عذاب النار المحرق النافذ في عموم المساقاة مث السموم.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ } في دار الدنيا قبل حلول الساعة وقيام القيامة { نَدْعُوهُ } سبحانه، ونسأل منه الحفظ والوقاية من عذابه ونكاله في هذا اليوم الموعود، وكيف لا نسأ منه؟! إنه سبحانه { هُوَ ٱلْبَرُّ } المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والإنعام { ٱلرَّحِيمُ } [الطور: 28] كثير الرحمة والامتنان على السائلين المؤمنين المستحقين، فاستحاب سبحانه بلطفه سؤالنا، وأنجح آمالنا بمقتضى سعة جوده ورحمته.
وبعدما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من فضل الله، ولطفه، وسعة رحمته، وجوده مع أوليائه { فَذَكِّرْ } واثبت على العظة والتكذير لعموم عباد الله، ولا تبالِ بقولهم الباطل في حقك { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } التي هي الآيات المنزلة إليك، الملهمة من ربك { بِكَاهِنٍ } مبتدع مفتر مجترئ على الإخبار عن المغيبات بلا روحي من قبل الحق وإلهام من جانبه { وَلاَ مَجْنُونٍ } [الطور: 29] مختل العقل، مخبط الرأي كما يزعم في شأنك المسرفون المتفرون. { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } فصيح بليغ بلغ على حد من البلاغة، عجز عن معارضته أقرانه مع البلغاء، فنحن { نَّتَرَبَّصُ } وننتظر { بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 30] أي: من الأيام وكرِّ الأعوم إلى أن يموت، فنخلص من فتنته وشرته.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل: { تَرَبَّصُواْ } وانتظروا لمقتي وموتي { فَإِنِّي } أيضاً { مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [الطور: 31] المنتظرين لمقتكم وهلاككم، والأمر بيد الله، والحكم مفوض إلى مشيئته، موكول إلى إرادته، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
أهم يكابرون في هذه الأحكام المتناقضة مجادلة ومراء، وينسبونك مرة إلى الكهانة المتضمنة الفطانة، ومرة إلى الجنون المنبئ عن نهاية البلادة، وتارة إلى الشعر المستلزم للوزن والقافية، مع أن ما جئت به من الكلام عارٍ عن الوزن، خالٍ عن القافية مطلقاً.