التفاسير

< >
عرض

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٣٢
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
٣٣
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٣٤
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ
٣٥
أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ
٣٦
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ
٣٧
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ
٣٩
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٠
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤١
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٤٣
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
٤٤
فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ
٤٥
يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٤٦
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٧
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
٤٨
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ
٤٩
-الطور

تفسير الجيلاني

{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ } السخيفة المستمدة من أوهامهم الضعيفة { بِهَـٰذَآ } القول الباطل الزاهق الزائل { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الطور: 32] بغون متناهون في العتو والعناد، صدر عن أمثال هذه، بلا تأمل وتدبر على مقتضى عتوهم وثروتهم وكبرهم وخيلائهم.
{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } واخلتقه من تلقاء نفسه، ونسبة إلى الوحي والإلهام تغيراً وترويجاً { بَل } معظم أمرهم وقصارى رأيهم أنهم { لاَّ يُؤْمِنُونَ } [الطور: 33] به وبك، فيتفوهون بأمثال هذه المطاعن والقوادح من شدة شكيمتهم، وغلظ غيظهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل.
وبعدما بالغوا في القدح والطعن، وبلغوا غاية اللإنكار والإصرار، قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتبكيت: { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أولئك المسرفون المفرطون { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } [الطور: 34] في زعمهم ومفترياتهم مع أنهم لم يأتوا بمثله، ولا يتأتى منهم الإتيان أيضاً، وإن يتظاهروا ويتعاونوا بجميع ما في الأرض؛ إذ هو خارج عن طور البشر ومشاعره.
أيصرون على إنكار الخالق مع أنهم مخلوقون { أَمْ } اعتقدوا أنهم { خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } وبلا فاعل موجد { أَمْ } اعتقدوا نفوسهم أنهم { هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35] المستقلون على إيجاد هياكلهم بلا مؤثر خارجي هو الله، أيحصرون حينئذ خالقيتهم لأنفسهم فقط؟!
{ أَمْ } اعتقدوا أنهم { خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي: العلويات والسفليات والممتزجات؟! وبالجملة: لا ينكرون حدوث الأشياء، واستنادها المحدث المؤثر { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [الطور: 36] ولا يتصفون باليقين في إثبات الموجد القديم وتوحيده.
أهم يثبتون مرتبة النبوة من تلقاء أنفسهم، ويختارون لها من يريدون { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ } [الطور: 37] الغالبون المقتدرون على عموم مقاصدهم ومطالبهم، فيفعلون جميع ما يأملون ويشاءون، بالإدارة ولاختيار؟!
{ أَمْ } ادعوا علم الغيب بالاستماع من الملأ الأعلى؟! إذ { لَهُمْ سُلَّمٌ } مرقاة يصعدون بها إلى مكان من السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } من الملائكة ما يظهرون من تكذيب الرسل، وقدح القرآن { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [الطور: 38] أي: بحجة واضحة ومعجزة ساطعة، كما أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
أأنتم العقلاء المتضرون بكمال الرشد والرزانة أيها المسرفون المفرطون { أَمْ } سفهاء منحطون عن زمرة العقلاء مع أن دعواكم بأن { لَهُ } سبحانه { ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [الطور: 39] تدل على سفاهتكم وانحطاطكم عن متقضى العقل؟! إذ إثبات الولد مطلقاً للواحد الأحد الصمد، المنزه عن الأهل والولد بعيد بمراحل عن مقتضى العقل، فكيف إثبات أخس الأولاد سبحانه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
فثبت أن أولئك الحمقى سفهاء ساقطون عن رتبة العقلاء وأهل العبرة، فلا يسمع منهم مطلق الدعوى، سيما الأمور المتعلقة بالمعارف الإلهية.
فكيف إنكارهم بك يا أكمل الرسل هذا، أينكرون رسالتك يا أكمل الرسل، ويظنون لحوق الضرر إياهم منك { أَمْ } أيظنون إنك بسبب تبليغك إياهم { تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } جعلاً عظيماً { فَهُم } حينئذ { مِّن مَّغْرَمٍ } والتزام غرامة عظيمة { مُّثْقَلُونَ } [الطور: 40] متحملون الثقل، لذلك شق عليهم الأمر إلى حيث أنكروا لك، وانصرفوا عن تصديقك.
وبالجملة: أينكرون رسالتك بمقتضى قرائحهم، ومن تلقاء أنفسهم { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } أي: لوح القضاء المثبت فيها جميع الأشياء { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [الطور: 41] المغيبات منها؟!
{ أَمْ يُرِيدُونَ } ويقصدون { كَيْداً } لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مكروا عليه { هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } [الطور: 42] المقصورون على كيدهم، لا يتعدى عنهم وباله.
أينكرون توحيد الحق مكابرة { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } يعبدونه كعباده، ويطيعونه على نحو إطاعته ويستعينون منه في الخطوب والملمات، وبالجملة: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الطور: 43] لهم من أدون مخلوقاته.
{ وَ } بعدما ألحقوا، واقترحوا بقولهم: فأسقط علينا كسفاً من السماء { إِن يَرَوْاْ كِسْفاً } قطعاً { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً } عليهم وبمقتضى اقتراحهم { يَقُولُواْ } من شدة عنادهم، وفرط إنكارهم: هذا { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور: 44] تراكم بعضه على بعض فيسقط.
وبالجملة: { فَذَرْهُمْ } يا أكمل الرسل، واتركهم على ماهم عليه من العدوان والطغيان { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ } ويصلوا { يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور: 45] يموتون، ويهلكون بالمرة، وهو عند النفخة الأولى، ثم يحشرون ويعذبون.
{ يَوْمَ } أي: يومئذ { لاَ يُغْنِي } ولا يدفع { عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ } الذي أتوا به في دار الندوة والابتلاء { شَيْئاً } من الدفع والإغناء في رد عذاب الله { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [الطور: 46] ويمنعون حينئذ من بطشه وعذابه.
وهم مع ذلك لا يمهلون إلى العذاب الآجل، بل يعذبون في العاج والبرزخ أيضاً، كما قال سبحانه: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } العذاب الأخروي الموعود لهم، وهو وقوعهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخسران، وتقيدهم بسلاسل الآمال وأغلال الأماني { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الطور: 47] ولا يفهمون ألمها، مع أنها من أشد العذاب إيلاماً، وأصعب الوبال والنكال انتقاماً، أعاذنا الله وعموم عباده منها.
{ وَ } بالجملة: { ٱصْبِرْ } يا أكمل الرسل { لِحُكْمِ رَبِّكَ } بإمهالهمم إلى قيام الساعة، وإبقائك فيما بينهم بأنواع التعب والعناء، ولا تستعجل لمقتهم وهلاكهم، ولا تخف من مكرهم معك وغدرهم عليك { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وكنف حفظنا وحوزة حراستنا وحضانتنا، نكفيك نكف عنك مؤنة شرورهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تبالِ بمكرهم وكيدهم، ولا تشتغل عنا بهمم وبمخاصمتهم { وَسَبِّحْ } أي: نزه ربك عن أن يعجز عن أخذهم وا نتقامهم أو عن إنجاز ما وعد لك من عذابهم ملتبساً { بِحَمْدِ رَبِّكَ } في جميع حلااتك وأوقاتك سيما { حِينَ تَقُومُ } [الطور: 48] من منامك.
{ وَمِنَ ٱللَّيْلِ } حين تستريح فيه للنوم { فَسَبِّحْهُ } لتكون على ذكر من ربك حين رقودك وغفلتك عن حواسك؛ ليكون ذكرك حينئذ توصية منك بمتخليلتك وإرشاداًلها وتعليماً إياها { وَ } سبحه أيضاً { إِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [الطور: 49] وقت دبور النجوم، وظهور ضياء الشمس، فإن كلا الوقتين وقت فراغ البال عن مطلق التشتت والأشغال العائقة عن التوجه، جعلنا الله ممن خلفف أثقاله وقلل آماله بمنِّه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو المقام المحمود الذي هو مرتبة الكشف والشهود - هداك الله إلى سواء السبيل، ووقاك عن مطلق التغيير والتبديل - أن تخلي خلدك عن الركون إلى ما سوى الحق، والالتفات إلى عموم ما يشغلك عن التوجه إليه، والتحنن نحوه.
ولك الاشتغال بالتسبيح والتقديس في جميع أوقاتك، وحالاتك سيما في أثناء صلواتك في خلال خلواتك، إياك إياك الميل إلى مزخرفات الدنيا ولذاتها وشهواتها، والاختلاط مع أبنائها المنغمسين بقاذوراتها، فإن التلطخ بمزخرفات الدنيا بكلُّ الأبصار ويعمي القلوب التي في الصدور.
خفف عنَّا بلطفك ثقل الأوزار، وأرزقنا بفضلك عيشة الأبرار، واصرف عنا بكرمك شر الأشرار.