التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
٥٢
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
٥٣
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
٥٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
٥٥
هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ
٥٧
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ
٥٨
أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
٥٩
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
٦٠
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
٦١
فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ
٦٢
-النجم

تفسير الجيلاني

{ وَأَنَّهُ } من كمال قدرته ووفور حكمته { خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [النجم: 45] من صنف ونوع وحنس، وقدر وجود الزوجين { مِن نُّطْفَةٍ } مهينة حاصلة منهما { إِذَا تُمْنَىٰ } [النجم: 46] أي: تصب وتراق في الرحم على وجه الدفق، أو تقدر وتخلق منها.
{ وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 47] أي: عليه سبحانه إعادة الأموات أحياء في النشأة الأخرى، كما أن عليه الإبداء في النشأة الأولى.
{ وَأَنَّهُ } سبحانه { هُوَ } بذاته لا بالوسائل والوسائط؛ إذ الكل راجع إليه { أَغْنَىٰ } من إغنى بإعطاء الأموال له { وَأَقْنَىٰ } [النجم: 48] من قنى بإلهام القنية والادخار.
وإنما فعل معهم ما فعل من الإغماء والإقناء ليشكروا له، ولم يعبدوا غيره، ومع ذلك أشركوا له، فعبدوا الشِّعرى، { وَ } لا شك أنه سبحانه { هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } [النجم: 49] وهي كواكب قد عبدها بعض الصابئين، منهم أو كبشة، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يكنى بكنيته.
{ وَأَنَّهُ } سبحانه { أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [النجم: 50] لشركهم، بالله، وصفهم بالأولى؛ لأنهم أول قوم أهلكهم الله بعد نوح، { وَ } أنه سبحانه أهلك { ثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } [النجم: 51] أحداً من كلا الفريقين.
{ وَ } أهلك أيضاً بمقتضى قدرته الكاملة { قَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أي: قبل إهلاك عاد وثمود { إِنَّهُمْ } أي: قوم نوح { كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } [النجم: 52] أي: أظلم الناس على أهل الله، وأطغاهم عن طريق الهداية والرشاد.
{ وَ } أنه سبحانه أهلك { ٱلْمُؤْتَفِكَةَ } أي: أهل القرى المنقلبة، وهي قوم لوط عليه السلام إلى حيث { أَهْوَىٰ } [النجم: 53] أي: أسقط عليهم درهم وأماكنهم، بعدما رفعها نحو السماء، وقلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، { فَغَشَّاهَا } حينئذ { مَا غَشَّىٰ } [النجم: 54] من أمطار الحجارة، وأنواع المصيبات والعاهات، والنكبات.
وبالجملة: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ } وأصناف نعمائه المتوالية المترادفة من انتقام الأعداء وإنعام الأولياء { تَتَمَارَىٰ } [النجم: 55] وتتدافع على وجه الجدال والمراء، أيها المحجوب الجاحد لوحدة الحق واستقلاله في عموم تصرفاته الجارية في ملكه وملكوته، بكمال الإرادة والاختيار.
وبالجملة: اعلموا أيها المجبولون على فطرة التكليف المثمر للمعرفة والتوحيد أن { هَـٰذَا } أي: رسولكم الذي أرسل إليكم من لدنا؛ ليرشدكم إلى توحيد الذات، مؤيداً بالكتاب المبين لمقدمات التوحيد، مشتملاً على الأوامر المؤدية إليه والنواهي العائلة عنه، والعبر والتذكيرات المصفية لنفوسكم عن الركون إلى ما ينافيه من المزخرفات الدنية الجالبة لأنواع اللذات، والشهوات الجسمانية الموروثة لكم من شياطين نفوسكم، وقواكم البهيمية الظلمانية المتفرعة على الطبيعة، والهيولي التي هي من نتائج التعينات العدمية الناسوتية المانعة من الوصول لصفاء علام اللاهوت { نَذِيرٌ } لكم أكمل { مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } [النجم: 56] إذ هم منذرون عن الشواغل المنافية؛ لتوحيد الصفات والأفعال، ونذيركم هذا صلى الله عليه وسلم ينذركم عن موانع توحيد الذات.
واعلموا أنه بعد بعثته صلى الله عليه وسلم: { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } [النجم: 57] أي: دنت القيامة واقترتب الساعة، { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } [النجم: 58] أي: ن فس قادرة على كشفها وتعيينها، ووقت وقوعها وقيامها؛ إذ هي من جملة المغيبات التي استأثر الله بها، ولم يطلع أحداً عليها.
ثم وبخ سبحانه على المنكرين ليوم القيامة المستكبرين عن قبولها فقال: { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } الصحيح، والحق الصريح الذي هو القرآن المعجز { تَعْجَبُونَ } [النجم: 59] تعنتاً وإنكاراً. { وَتَضْحَكُونَ } منه استهزاء ومراء { وَلاَ تَبْكُونَ } [النجم: 60] بما فيه من الوعيدات الهائلة، تلهفاً وتأسفاً عكلى ما فرطتم لأنفسكم وأفرطتم عليها.
{ وَأَنتُمْ } أيها الحمقى الجاهلون { سَامِدُونَ } [النجم: 61] لاهون ساهون، مستكبرون على ماف يه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد، مكابرون عليها عتواً وعناداً.
وإن أردتم التلافي والتدارك { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ } وتذللوا له حق تذللـه، و عظموه حق تعظيمه وتكريمه { وَٱعْبُدُواْ } [النجم: 62] له حق عبادته كي تصلوا إلى زلال معرفته وتوحيده.
جعلنا الله من زمرة عباده العابدين المتذللين الخاضعين الخاشعين بمنِّه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد - عصمك الله عن آفات التخمين والتقليد، وأعانك على التوكل والتجريد - أن تلازم على المجاهدة، والانكسار والتذلل، والافتقار بدوام العزلة والفرار عن أصحاب النخوة والاستكبار، صارفاً عنان عزمك لإسقاط عموم الإضافات و الاعتبار، طالباً الانخلاع عن ملابس الحياة المستعار، ملازماً لسبيل المثمر للبقاء الأبدي والحياة الأزلية السرمدية حتى تتخلص من أودية الضلال، وتصل إلى فضاء الوصال.