التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ
١
وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ
٢
وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ
٦
خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ
٧
مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ
٨
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ
٩
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ
١٠
-القمر

تفسير الجيلاني

{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } ودنت القيامة الموعودة قيامها، ومن علاماتها: انشقاق القمر { وَ } قد { ٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] بإشارة الحضرة الختمية المحمدية صلى الله عليه وسلم، هذا وتواتر وقوعه.
{ وَ } المنكرون المصرون على الإنكار والتكذيب، المقيدون بعقال العقل الفضولي، المغلولون بأغلال الأحلام المشوبة بالخيالات والأوهام { إِن يَرَوْاْ آيَةً } معاينة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم، والقادر العليم، يُعْرِضُوا عنها؛ لعدم مطابقتها بعاداتهم، ومقتضيات أوهامهم وخيالاتهم { وَيَقُولُواْ } من شدة إنكارهم وعنادهم: هذا الذي صدر منه على خلاف العادة { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [القمر: 2] في الزمان، وقوعه لا مختلق منه فقط.
{ وَ } بالجملة: { كَذَّبُواْ } الآية الخارقة للعادة { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } المعتادة الفاسدة، وآراءهم الباطلة الكاسدة { وَ } هكذا { كُلُّ أَمْرٍ } رسخ، تمكن في نفوسهم، سواء كان خيراً أو شراً، طاعة أو معصية، ولاية أو عداوة { مُّسْتَقِرٌّ } [القمر: 3] ثابت في مكانه بعدما تقرر وتمرن، لا يتعداه أصلاً.
{ وَ } من نهاية تمكنهم ورسوخهم في الكفر والعناد، وتمرنهم على الغيّ والفساد، لَقَدْ جَاءَهُم في القرآن المرشد لهم إلى الهداية والعرفان { مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } والأخبار الجارية على القرون الماضية، المصرة على العتو والعناد أمثالهم { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [القمر: 4] أي: وعيدات هائلة موجبة للانزجار الكامل، والارتداع المبالغ لأصحاب الغيرة والاستبصار.
أذ هي كلها { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } نهايتها في الإحكام والإتقان، ومع ذلك { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5] وما تفيدهم إنذاراتهم أصلاً؛ إذ هم مجبولون على الغواية المتناهية، أمثال هؤلاء الغاوين المصرين على العتو والعناد معك، وبالجملة: { فَتَوَلَّ } يا أكمل الرسل، وأعرض { عَنْهُمْ } وعن دعوتهم وإرشادهم، وانتظر { يَوْمَ يَدْعُ } وينادي { ٱلدَّاعِ } المنادي هو إسرافيل - ودعاؤه كناية عن نفخة في الصور للبعث أو الحشر { إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } [القمر: 6] فظيع فجيع، تنكره النفوس؛ إذ لم يعهد مثله، وهو هول يوم القيامة المعدَّة للحساب والجزاء.
وبعدما سمعوا النداء والهائل، والصداء المهول { خُشَّعاً أَبْصَٰرُهُمْ } أي: شاخصة ذليلة، كالتائه الهائب الهائل { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: قبورهم التي هم مدفونون فيها في عالم البرزخ، ويتحركون على الأرض { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [القمر: 7] في الكثرة والانتشار إلى الأمكان.
فيتوجهون { مُّهْطِعِينَ } مسرعين { إِلَى ٱلدَّاعِ } المنادي، مادين أعناقهم نحوه، ومن شدة خوفهم وهولهم، ليعلموا لما يدعوهم، ومن شدة تلك الساعة، ونهاية أهوالها وفظاعتها { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } في نجواهم، وهواجس نفوسهم: { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر: 8] صعب في غاية الصعوبة والفظاعة.
ثمَّ قال سبحانه تسليةً لحبيبه صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، حاكياً إياه صلى الله عليه وسلم عن أحوال الماضين تسليةً وإزالةً لحزنه: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } أي: قبل قومك { قَوْمُ نُوحٍ } أي: لا تحزن يا أكمل الرسل من تكذيب هؤلاء المكذبين بك، ولا تغتم من أذياتهم؛ إذ ما هي ببدع منهم بالنسبة إليك، بل تذكر تكذيب قوم نوح { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } أي: كيف كذبوا أخاك نوحاً { وَقَالُواْ } له حين دعوتهم إلى الإيمان: هو { مَجْنُونٌ } مخبط، مختل العقل والرأي { وَٱزْدُجِرَ } [القمر: 9] وزجر؟ لأجل دعوته وتبليغه إياهم إلى حيث لطمه كلُّ من يصل إليه، ورماه بالحجارة كل من يمر عليه، فصبر على أذاهم، وبالغ في دعوته إياهم.
وبعدما بلغت الأذية غايتها { فَدَعَا رَبَّهُ } دعاء مؤمل ضريع فجيع: { أَنِّي } أي: بأني - على قراءة الفتح - أو قال: إني بالكسر { مَغْلُوبٌ } غلبني قومي، ولم يقبلوا مني دعوتي وهدايتي { فَٱنتَصِرْ } [القمر: 10] عليَّ يا ربي، وانتمم لي منهم، وما دعا عليهم إلاَّ بعد يأسه عن إيمانهم.
رُوي أنه يدعو كل واحد منهم جمعاً وفرادى، فيضربونه ويخنقونه حتى خر مغشياً عليه، ثمَّ لما أفاق قال:
"اللهم اهد هومي، فإنهم لا يعلمون" .