التفاسير

< >
عرض

سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

تفسير الجيلاني

ومن كماب بطرهم وغرورهم يقولون هذا، ولم يعلموا أنه { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ } أي: يفرق جنس الجموع على وجه الهزيمة { وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45] أي: ينصرف كلٌّ منهم عن عدوه مستدبراً إياه في الدنيا.
{ بَلِ ٱلسَّاعَةُ } الموعودة { مَوْعِدُهُمْ } العظيم؛ لتعذيبهم وتفضيحهم الحقيقي الأصلي، المعنوي والصوري، وما عرض عليهم في الدنيا، فمن مقدمات ما سيلحقهم من العقبى { وَ } بالجملة: { ٱلسَّاعَةُ } والعذاب الموعود فيها، والساعة { أَدْهَىٰ } أشد وأفظع، ودواهيها لا دواء لها، ولا نجاة منها { وَأَمَرُّ } [القمر: 46] مذاقاً من عذاب الدنيا، بل بأضعافه وآلافه.
وبالجملة: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ } المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية، وعن متقضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده { فِي ضَلاَلٍ } عن الحق وأهله في العاجل { وَسُعُرٍ } [القمر: 47] نيران مسعرة لهم، معدَّة لهم في الآجل.
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يَوْمَ يُسْحَبُونَ } ويجرون{ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } صاغرين مهانين، فيقال لهم حينئذٍ: { ذُوقُواْ } أيها المسرفون المفسدون { مَسَّ سَقَرَ } [القمر: 48] أي: مساس جهنم، وشدة حرها وحرقها، بدل ما يتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية، وشهواتها البهية البهيمية.
وكيف لا نُدخل المجرمين في دار القطيعة، ولا نسحبهم نحوها مهانين، فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا وأوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة؟! { إِنَّا } بمقتضى كمال علمنا، وشمول قدرتنا وإرادتنا المقتضية للحكم والمصالح، خلقنا وأظهرنا { كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } وأظهرناه من كتم العدو مقروناً { بِقَدَرٍ } [القمر: 49] أي: بمقدار نقدره في حضرة علمنا، ولوح قضائنا، ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق، فنظهره على وفقه.
{ وَ } تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا، وقدرتنا الكاملة، تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات، وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا؛ إذ { مَآ أَمْرُنَآ } وحكمنا الصادر المبرم منا في السرعة والمضاء، بالنسبة إلى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الأزمة والآناء، بل بالنسبة إلى جميع الخواطر والخواطف الواردة على القلوب، وإلى جميع الاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات، بل بالنسبة إلى ما في الاستعدادات والقابليات { إِلاَّ } فعلة { وَاحِدَةٌ } بلا ترتب وتراخ، وتوقف ومهلة { كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [القمر: 50] أي: كنظرة سريعة بالطرف، هيهات هيهات، والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي إلاَّ بحسب أحلام الأنام، وبمقتضى أفهامهم وأوهامهم السخيفة، وإلاَّ فلا يكتنه سرعة قضائه أصلاً، حتى يمثل ويشبه.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد: وكيف لا تخافون أيها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ } واستأصلنا { أَشْيَاعَكُمْ } أشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد، وأنواع الفسوق والفساد، بأصناف العقوبات والبليات الهائلة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 51] متذك، يتعظ بأهلاكهم وبما جرى عليهم من الشدائد؟!
{ وَ } كما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الأولى كذلك، بل بأضعافها وآلافها، نعذبهم في النشأة الأخرى أيضاً بها؛ إذ { كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ } فيما مضى، وصدر عنهم في النشأة الأولى محفوظ مثبت { فِي ٱلزُّبُرِ } [القمر: 52] أي: في مكاتب الحفظة المراقبين عليهم في عموم أحوالهم وأطوارهم.
{ وَ } كيف لا يحفظ؛ إذ { كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } وقليل وكثير على التفصيل { مُّسْتَطَرٌ } [القمر: 53] مسطور على التفصيل في اللوح المحفوظ أولاً، وفي صحائف أعمالهم ثانياً، وبالجملة: لا يعزب عن حيطة علمه شيء من أعمالهم وأقوالهم، وأطوارهم وأحوالهم مطلقاً. ثمَّ عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } المتحفظين نفوسهم عن المحرمات والمنهيات، متنعمون { فِي جَنَّاتٍ } متنزهات العلم والعين والحق { وَنَهَرٍ } [القمر: 54] جداول جاريات، منتشئات من بحر الحياة اللدنية المتجددة حسب تجددات دار التجليات الإلهية، متمكنون { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } هو مقام التسليم والرضا بمقتضيات القضاء { عِندَ مَلِيكٍ } يملكهم ويتكفل بأمورهم، وجميع حوائجهم { مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55] على تدابيرها بمقتضى الحكمة المتقنة.
جعلنا الله من زمرة المتقين، المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر، العليم الحكيم.
خاتمة السورة
عليك أيها المريد القاصد للتمكن في مقعد الصدق، والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي - وفقك الله الوصول إلى غاية مقصدك ومرامك - أن تنقي نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات، المنافية لسلوك طريق الحق والتوحيد من الرياء والرعونات، المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولي المتفرعة على التعينات العدمية، المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية، وتلازم العزلة والفرار عن الدنيا الدنيَّة وأمانيها مطلقاً، وتقنع منها بضروراتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد، حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر، موحد في الوجود والقيومية.
ثبتنا بلطفك على نهج اليقين والتمكين، وجنبنا بجودك عن أمارات التخمين والتلوين، يا ذا القوة المتين.