{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الرحمن: 1] أي: الذات المحيطة بعموم الأعيان بالرحمة العامة الواسعة، وبمقتضى سعة رحمته، ووفور لفطه ورأفته.
{ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن: 2] لنوع الإنسان، ونزّل على خاصة خلقه، ليكون مبيناً لهم سبيل الكشف والعيان، ونهج التوحيد والعرفان.
مع أنه لما { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } [الرحمن: 3] سبحانه؛ لأجل هذا الشأن البديع البرهان، ولهذه الحكمة والمصلحة أيضاً بعينه.
{ عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 4] أي: التنطق والتكلم بلغات شتَّى، وعبارات لا تُحصى؛ ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناه، ويتفطن منها إلى ما هو مغزاها ومرماها، وغاية قصواها، ألا وهي المعارف والحقائق، والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوي حروف المصاحف، والكلمات الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من لوازم الحياة الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية، والنفثات اللاهوتية الثابتة للوجود المطق حسب تجليات الذات الإلهية، وعلى مقتضى الأسماء والصفات الذاتية الكامنة فيها، المتجلية عليها بمقتضى الشئون والكمالات الغير المتكررة إلى ما يتناهى أزلاً وأبداً؛ ليظهر للإنسان سر الظهور والبطون، والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية.
ولهذه المصلحة أيضاً ظهر في العلويات { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 5] أي: يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه، معلوم في حضرة علمه؛ ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المقتبسة من مشكاة النبوة، المتفرغة على العدالة الذاتية الإلهية.
{ وَ } أيضاً أظهر في السفليات لتلك المصلحة العليَّة { ٱلنَّجْمُ } أي: النبات الذي لا ساق له { وَٱلشَّجَرُ } وهو الذي له ساق { يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] يخضعان ويتذللان له سبحانه دائماً من كمال الإطاعة والانقياد.
{ وَ } بالجملة: { ٱلسَّمَآءَ } أي: عالم الأسباب والأقدار { رَفَعَهَا } في أعلى المكان والمكانة { وَوَضَعَ } فيها { ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7] المعتدل المبنئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية، وعين المقادير والآجال المقدرة لجربها، ورتبها على دورها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية.
وإنما رتبها على متقضى الحكمة والعدالة { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } أي: لئلا تعتدوا وتتجاوزوا أيها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان، على مقتضى الوحي الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة في الأرض { فِي ٱلْمِيزَانِ } [الرحمن: 8] الموضوع بمقتضاها، ألا وهي الشرع الشريف.
{ وَ } بعدما سمعتم حال العلويات والسلفليات، وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي { أَقِيمُواْ } أيها المكلفون فيما بينكم { ٱلْوَزْنَ } واعتدلوه { بِٱلْقِسْطِ } والإنصاف { وَلاَ تُخْسِرُواْ } ولا تنقصوا { ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 9] إذ هو موضع على العدل السوي.
{ وَ } اعلموا أن { ٱلأَرْضَ } إنما { وَضَعَهَا } ومهدها سبحانه { لِلأَنَامِ } [الرحمن: 10] ليعتدلوا عليها، ويستقيموا عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها، حتى يستعدوا لأن يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود، فيفوزوا بمقر التوحيد، ويتمكنوا في مقعد الصدق والتفريد.
لذلك أعدَّ لهم سبحانه تفضلاً عليهم وتكريماً: { فِيهَا فَاكِهَةٌ } كثيرة يتفكهون بها، من أنواع الفواكه تقويماً لأمزجتهم، وتقويةً لها { وَ } لا سيما { ٱلنَّخْلُ } التي هي { ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } [الرحمن: 11] والأوعية المشتملة على التفكه والتقوت لسائر الأغراض الحاصلة منها.
{ وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } "والحبُّ" أي: وكذا اعدَّ لهم فيها جنس الحبوب التي يتقوت بها نوع الإنسان منها "ذُو العصف": ذا العصف؛ أي: التين والقشور؛ إذ هو محفوظ فيها، مربي معها إلى أن يستوي وينضج، فيتقوت بحبّه الإنسانُ، وبعصفه المواضي { وَ } كذا ظهر لهم فيها بمقتضى جوده { ٱلرَّيْحَانُ } [الرحمن: 12] أي: جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان، المصفية له عن الروائح الخبيثة، والنفحات الكريهة.
ثمَّ لما عدَّ سبحانه نبذاً من نعمه الشاملة على عموم الأنام، خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان، وهم الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد، واستعداد الإيمان والعرفان، فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا } ونعماء موجدكما ومربيكما { تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 13] أيها المغموران في نعمه، المستغرقان في بحار جوده وكرمه.
وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله، والطغيان عليه سبحانه، مع أنه { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } المصور بصورة الرحمن، وقد خلقه { مِن صَلْصَالٍ } أي: طين يابس له صلصلة وصوت { كَٱلْفَخَّارِ } [الرحمن: 14] أي: الخزف المتخذ من التراب، الموقد بالنار، ومع دناءة منشئة ومادته، رفعه إلى حيث جعله خليفةً للحق، نائباً عنه، ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته.
{ وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } أي: الجن، وقدر وجودهم { مِن مَّارِجٍ } من دخال صاف حاصل { مِّن نَّارٍ } [الرحمن: 15] موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب، ومع رداءة مادتها وكثافتها، جعله شبيهاً بالملأ الأعلى، متصفاً بها في كمال اللطافة والصفاء إلى حيث لا يرى أشبحهم كالملائكة.
وإذ كان شأن الحق معكما هذكا { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 16] وتنكران أيها الثقلان.