التفاسير

< >
عرض

رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٢
يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
٣٣
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٤
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ
٣٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٨
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
٣٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٠
-الرحمن

تفسير الجيلاني

وكيف يليق بشأنه سبحانه الإنكار والتكذيب، مع أنه سبحانه { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } أي: مشرقي الظهور والبروز من عالم العماء واللاهوت إلى فضاء الأوصاف والأسماء المسمى: بالغيب والأعيان الثابتة، ثمَّ منها إلى عالم الشهادة في السير الهابط { وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17] أي: مغربي الخفاء والبطون عن عالم الناسوت إلى برزخ الأعيان الثابتة، ثمَّ عنها إلى عالم اللاهوت في السير الصاعد؛ إذ يتوالد دائماً على شمس الحقيقة والحقية الذاتية، باعتبار تجلياتها حسب أسمائها وصفاتها، شروق وأفول، وطروق طلوع وغروب؟!
وبالجملة: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 18] أيها المظهران الكاملان المجبولان على فطرة الشعور والعرفان.
ومن أنى يتأتى التكذيب في شأ،ه سبحانه؛ إذ هو بمقتضى قدرته { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } أي: أرسل وأطلق بحر الوجود والعدم إلى حيث { يَلْتَقِيَانِ } [الرحمن: 19] أي: يتمازجان ويختلطان، بحيث لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عن الكشف والشهود؟!
ويبقى { بَيْنَهُمَا } عنايةً منه سبحانه { بَرْزَخٌ } هو الإنسان الكامل المنكشف بكيفية انبساط بحر الوجود العذب على بحر العدم المالح، وامتداده عليه وانطباق سطوحهما، بحيث لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عين العبرة، وبصر البصيرة، وجعل سبحانه برزخ الإنسان الكامل على مقتضى الحكمة المعتدلة، بحيث { لاَّ يَبْغِيَانِ } [الرحمن: 20] أي: لا يبغي ويغلب كلّ من يجري الوجود والعدم على صاحبه في مرتبته ونشأته، حتى يبطل حكمة الظهور والبطون، والجلاء والخفاء، والإلوهية والعبودية، وسائر المتقابلات المترتبة على الشئون الإلهية المتفرعة على الأسماء الذاتية.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 21] أيها المكلفان الذاتية.
وكيف لا تعتبران، ولا تشركان نعمه، مع أنه { يَخْرُجُ } حسب عنايته الآزلية { مِنْهُمَا } أي: من البحرين المذكورين { ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] أي: يخرج لكما أيها الثقلان المجبولان على فطرة الإيمان، من امتزاج البحرين المذكورين، لآلئ المعارف والحقائق، ومرجان الشهود والإيقان؟!
{ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 23] أيها الممنونان المغموران، المستغرقان في موائد كرمه.
{ وَلَهُ } سبحانه تفضلاً على عباده وامتناناً لهم { ٱلْجَوَارِ } أي: سفن الملل والأديان المنزلة من عنده سبحانه على عموم الرسل والأنبياء ليرشدوا بها أممهم إلى طريق التوحيد والعرفان { ٱلْمُنشَئَاتُ } المصنوعات المستحدثات { فِي ٱلْبَحْرِ } أي: بحر الوجود { كَٱلأَعْلاَمِ } [الرحمن: 24] أي: كالرواسي العظام التي يعلم ويشار بها للتائهين في بيداتء الوجود، الضالين في صحراء الجحود، إلى جادة اليقين والعيان.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 25] أيها المكلفان.
وبالجلمة: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا } أي: على أرض القوابل والهيولى من التعينات المستتبعة لأنواع الإضافات، الحاصلة من تموجت بحر الوجود وتجلياته بمقتضى الكرم والجود، إنما هو { فَانٍ } [الرحمن: 26] لا وجود، ولا تحقق لها في ذواتها أصلاً، سوى أنها انبسط عليها أظلال الأسماء والصفات الإلهية.
{ وَ } بعد فناء نقوش الأمواج والأظلال بأسرها { يَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل بمقتضى صرافة وحدته، مستغنياً في ذاته عن عموم مظاهره ومخلوقاته؛ إذ هو سبحانه { ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن: 27] لا يشارك في وجوده، ولا ينازع في سلطانه، فمآل الكل إليه، كما أن مبدأه منه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وإذ كان شأنه سبحانه هذا { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 28] أيها الأضلال الهلكى.
وبالجملة: { يَسْأَلُهُ } ويستمد منه في كل زمان وآن، ويستظل تحت ظل جود وجوده كلُّ { مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } من فواعل المظاهر وقوابلها؛ إذ { كُلَّ يَوْمٍ } وآن { هُوَ } سبحانه { فِي شَأْنٍ } الرحمن: 29] لا يسبقه شأن، ولا يلحقه شأن مثله، فكلّ من المظاهر الإلهية في كل آن وطرفة في خلع صورة، ولبس أخرى حسب شئون الحق، وسرعة نفوذ قضائه.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 30] ايها المجبولان على فطرة الدراية والشعور.
ثمَّ لما عدَّ سبحانه على عموم المكلفين نبذاً من نعمه العظام، على سبيل التنبيه والامتنان، أراد ، يشير إليه، ويبينه عليهم بالقيام على أداء حقوقها، ومواظبة شكرها؛ لئلا يغفلوا من الله، ولا يستحيوا عند الحساب في يوم الحشر والجزاء، فقال: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } نتجرد ونخلو لحسابكم، وتنقيد أعمالكم وجزائكم على مقتضاها { أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [الرحمن: 31] المثقلان بشكر نعمنا، وأداء حقوق كرمنا، ومتى سألناكما عن أعمالكما.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 32] وتنكران، مع أنَّا ما خفي علينا شيء من أعمالكم مطلقاً، لام من كفرانكم وعصيانكم، ولا من شكركم وإيمانكم.
ثمَّ قال سبحاه منادياً لهم على وجه التوعيد والتوبيخ والتهديد: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } المجبولين على فطرة التكليف بمقتضى الحكمة البالغة، عليكم أن تنقادوا وتطيعوا بعموم ما كلفتم به، والمثمر لحكمة المعرفة واليقين، إلاَّ { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } وقدرتهم { أَن تَنفُذُواْ } وتخرجوا فارين عن مقتضيات قهرنا وغضبنا { مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: من جهة العلويات والسفليات { فَٱنفُذُواْ } واخرجوا، مع أنكم { لاَ تَنفُذُونَ } ولا تقدرون على الخروج { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [الرحمن: 33] أي: بقدرة واقتدار موهوبة لكم من قِبَل ربكم؛ إذ لا يصدر منكم مطلق الأفعال الحركات إلاَّ بإقدار وتمكينه سبحانه.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 34].
وكيف تنفذون وتفرون من حيطة قدرته وجلاله؛ إذ { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } في النشأة الأخرى جزاءً لأعمالكم { شُوَاظٌ } لهب مشتعل { مِّن نَّارٍ } موقدة مسعرة { وَنُحَاسٌ } أي: دخان مظلم حاصل منها، وبالجملة: { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [الرحمن: 35] ولا تمتنعان عنهما، ولا تدفعانهما بحولكما إلاَّ بعناية ناشئة من الله، وفضل يدرككم من لدنه.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 36] وعليكم أن تشركوا آلاء الله، وتواظبوا على أداء حقوق نعمائه قبل حلول يوم الجزاء وبعده يوم الحشر.
{ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } واندكت الأرض من خشية الله، ورهبته { فَكَانَتْ } السماء من كمال غضب الله { وَرْدَةً } حمراء مذبة { كَٱلدِّهَانِ } [الرحمن: 37] أي: تذوب كالدهن المذاب من شدة الخشية الإلهية، فلا يمكنكم حينئذ التدارك والتلافي.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 38] حيث يخبركم بالتهيئة والتدارك قبل حلول الساعة.
بل { فَيَوْمَئِذٍ } أي: حين انشقاق السماء { لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن: 39] أي: لا يُسأل حينئذ لا عن ذنب الإنس ولا على ذنب الجان، ولا يتلفت إلى أعمالهما وأفعالهما، بل يبعثون من قبورهم، ويساقون نحو المحشر حيارى تائهئين للحساب والجزاء، فاعتنى سبحانه بشأنكم، ونبهكم على إعداد الزاد قبل يوم المعاد.
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 40] وكيف لا تعتادون، ولا تتزودون ليومكم هذا؟!