التفاسير

< >
عرض

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
٧٧
فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
٧٨
لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ
٧٩
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
٨١
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
٨٢
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ
٨٣
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
٨٤
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
٨٥
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٨٨
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
٨٩
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩٠
فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩١
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ
٩٢
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
٩٣
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
٩٤
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ
٩٥
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٩٦
-الواقعة

تفسير الجيلاني

و{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ } موضح مبين لطريق الإيمان والعرفان { كَرِيمٌ } [الواقعة: 77] كثير الخير والنفع لحامليه، وممتثلي ما فيه من الأمور والنواهي، مصون مثبت { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعة: 78] محفوظ مستور عن نظر المحجوبين، ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي، ولوح قضائه.
لذلك { لاَّ يَمَسُّهُ } ولا يتصف بمقتضاه { إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] عن أوساخ التقليدات والتخمينات، وأكدار الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول إلى صفاء مشرب التوحيد، المسقط لعموم الإضافات.
وكيف يمسه غير أهل الكشف والطهارة الحقيقية؟ مع أنه { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الواقعة: 80] الذي هو في ذاته مقدس عن شوائب النقص وسماته ملطقاً { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } العظيم الشأن، المنبئ عن محض الحكمة والإيقان { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } [الواقعة: 81] متهاونون متساهلون أيها المسرفون المفرطون؟.
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } حظكم ونصيبكم من هدايته وإرشاده { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة: 82] جهلاً وعناداً، أتسرفون وتفرطون في الاجتراء على الله وتكذيب كلامه ورسوله المرسل من عنده أيها المفسدون المفرطون؟!
{ فَلَوْلاَ } تتذكرون، وهلا تتعظون به، أما تخافون وقت { إِذَا بَلَغَتِ } النفس { ٱلْحُلْقُومَ } [الواقعة: 83] أي: لكل منكم بأمر الله.
{ وَ } الحال أنه { أَنتُمْ } أيها الحاضرون حول المحتضر { حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [الواقعة: 84] له، ولا تعلمون لحاله، ولا تفهمون ما جرى عليه من سكرات الموت وأفزاعه وأهواله.
{ وَنَحْنُ } حينئذ { أَقْرَبُ إِلَيْهِ } إي: إلى المحتضر { مِنكُمْ } وأعلم بحاله وشغله، لا قرب الحلول فيه، ولا الاتحاد معه، بل قرب ذي الظل إلى الظل، وذي الصورة إلى الصورة المنعكس والمرآة { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85] وتدركون قريباً لا إليه ولا إليكم، أيها المحجوبون المحرومون، ولا تدركون أيضاً ما يجري عليه من الأهوال.
{ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [الواقعة: 86] أي: مضطرين مملوكين مجبورين { تَرْجِعُونَهَآ } أي: فهلا ترجعون النفس المخرجة البالغة إلى الحلقوم إلى محلها ولا تمنعونها عن الخروج { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الواقعة: 87] في دعوى الاستيلاء والاستقلال وعدم المبالاة بالصانع القديم الحكيم العليم، فهلا تدفعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم؟! { فَأَمَّآ } بعد خروج الروح من البدن { إِن كَانَ } المتوفى { مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [الواقعة: 88] السابقين من الفرق المشار إليها في أول السورة.
{ فَرَوْحٌ } أي: موته له راحة ورحمة، وإيصال له إلى عالم اللاهوت، وإزاحة زحمة عنه، عارضة عليه، متعلقة إياه من كسوة الناسوت { وَرَيْحَانٌ } يشمه من فوائح الرحمن { وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } [الواقعة: 89] دائم التنعيم والترفه في المقام المحمود والحوض المورود في جوار الخلاَّق الودود.
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ } المتوفى { مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [الواقعة: 90] أي: من الأبرار الموصوفين باليمن والكرامة الموروثة له من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية.
{ فَسَلاَمٌ لَّكَ } يا ذا اليمن والكرامة { مِنْ } قبل { أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [الواقعة: 91] أمثالك، ترحيباً لك وتكريماً.
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ } المتوفى من أصحاب الشما والشآمة الأزلية والشقاق الجبلية { مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ } بيوم الدين { ٱلضَّآلِّينَ } [الواقعة: 92] المنحرفين عن منهج الاستقامة، الموصلة إلى دار المقامة والكرامة.
{ فَنُزُلٌ } فله نزل { مِّنْ حَمِيمٍ } [الواقعة: 93] بدل ما لا يتعطش في النشأة الأولى إلى زلال برد اليقين، ولا يشرب رشحة وجرعة من رحيق المعرفة والتوحيد.
{ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [الواقعة: 94] أي: إدخال نار عظيمة، بدل ما يتلذذ بالشهوات وبالميل إلى المحرمات والمكروهات، وبالجملة: { إِنَّ هَـٰذَا } الذي ذكر في حق هؤلاء الفرق الثلاث { لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [الواقعة: 95] بالنسبة إلى أرباب الكشف والشهود، المطلعين بمراتب الوجود باليقين العلمي والعيني والحقي.
{ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 96] أي: نزه يا أكمل أرباب الشهود والحضور ذات ربك عن شوب الريب والتخمين، بذكر اسمه العظيم، المستجمع لعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإنك على الحق اليقين في مطلق أسمائه وصفاته.
جعلنا الله ممن اتصف بحق اليقين، وخلص! عن أمارات الريب والتخمين، بمنه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك القاصد لانكشاف مراتب الوجود بطريق الكشف والشهود والاطلاع على ما فيها من الكفر والجحود والانحراف عن الطريق المعهود الذي نزل بتبيينه الكتب والرسل أن تتأمل في عموم أوقاتك وحالاتك في هذه السورة العظيمة الشأن، وتعرض على نفسك دائماً أحوال الفرق الثلاث المذكورة فيها، وتذكرها عليك، حتى يظهر لك أنك مع من أنت من هؤلاء الفرق؟.
من السابقين المقربين المقبولين؟.
أم من أصحاب اليمين الموفقين المحسنين؟.
أم من المكذبين الضالين المعذبين؟.
وبالجملة:
{ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99].