التفاسير

< >
عرض

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٢٢
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢٥
-الحديد

تفسير الجيلاني

إذ { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } أي: ما حدث من حادثة مفرحة أو موحشة، كائنة { فِي ٱلأَرْضِ } أي: في أقطار الآفاق من الخصب والرخاء، والزلزلة والوباء إلى غير ذلك من المفرحات والموحشات الحادثة في الأنحاء والأرجاء { وَلاَ } كائنة { فِيۤ أَنفُسِكُمْ } من العوارض المسرة، والشهوات الملذة، أو من الأمراض والملمات المؤلمة { إِلاَّ } ثبت حدوثها في ساعة كذا، في آن كذا، على وجه كذا { فِي كِتَٰبٍ } أي: في حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه على اختلاف العبارات { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } نخلقها ونظهرها؛ أي: ثبت حدوث الحادثة في وقتها في كتابنا قبل أن تخلق الحادثة بزمان لا يعلم أحد مقداره إلاَّ نحن، ولا تستبعدوا من قدرتنا أمثال هذا { إِنَّ ذَٰلِكَ } الثبت والتقدير السابق، وإن كان عندكم عسير { عَلَى ٱللَّهِ } القادر المقتدر، الغالب على عموم المقدورات { يَسِيرٌ } [الحديد: 22] سهل في جانب قدرته وإرادته.
والسر في ثبتها قبل خلقها: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ } ولا تحزنوا أيها المجبولون على فطرة الكفران { عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } من اللذات والشهوات المرغوبة { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } منها؛ ليكون فرحكم سبباً لكبركم وخيلائكم على ضعفاء الأنام، وفقراء الإسلام { وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع على ما في استعدادات عباده من النخوة والاستكبار { لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } ذو كبر وخيلاء منهم { فَخُورٍ } [الحديد: 23] مخافر مباهٍ؛ بسبب المال والجاه والثروة، والسيادة على أقرانه وأبناء زمانه.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تسندوا الأمور إلى أنفسكم، بل فوضوا أموركم كلها إلى الله، وأسندوها إليه سبحانه بالأصالة، فلا تفرحوا ولا تحزنوا، بل افنوا في الله وابقوا؛ لتتمكنوا
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55].
والمختالو المفتخرون هم { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } ويمسكون أنفسهم عن التصدق والإنفاق، ويجمعون من حطام الدنيا مقدار ما يفتخرون بها، ويتفوقون على أقرانهم بسببها { وَ } من غاية بخلهم وإمساكهم: { يَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ } أيضاً { بِٱلْبُخْلِ } لئلا يلحق العار عليهم خاصة؛ وليعرضوا ويصرفوا ضعفاء الأنام عن امتثال أمر الله بالإنفاق؛ حتى لا ينالوا بالمثوبة العظمى، والكرامة الكبرى في النشأة الأخرى من عنده سبحانه { وَ } بالجملة: { مَن يَتَوَلَّ } ويعرض عنه الله، ولم يشكر لنعمه، ولم يواظب على أداء حقوق كرمه فلا يضره سبحانه، ولا ينقص من علو شأنه وسمو برهانه { فَإِنَّ ٱللَّهَ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { هُوَ ٱلْغَنِيُّ } بذاته عن إطاعة عباده، وإنفاقهم وشكرهم وكفرانهم { ٱلْحَمِيدُ } [الحديد: 24] حسب أسمائه وصفاته الذاتية بلا افتقار له إلى محامد مظاهره ومصنوعاته.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل الامتنان لعموم عباده، وإرشاداً لهم إلى سبل السلامة والسلام، وحثاً لهم إلى الطاعات والعبادات: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } من مقام عظيم جودنا { رُسُلَنَا } المبعوثين إلى هداية العباد وإرشادهم إلى سبيل الرشاد، وأيدناهم { بِٱلْبَيِّنَاتِ } المعجزات والواضحات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } المشتمل على الآيات الدالة على وحدة ذاتنا، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { وَ } أنزلنا معهم { ٱلْمِيزَانَ } الموضوع؛ للقسط والعدالة، كل ذلك { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ } المجبولون على الغفلة والنسيان { بِٱلْقِسْطِ } والعدل فيصيرون مستقيمين على صراط الله الأعدل الأقوم الذي هو الشرع القويم، والدين المستقيم المنزَّل على الرسول المبعوث بالخلق العظيم { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } لزجر المنحرف العنيد؛ إذ { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } للمائلين عن جادة الشريعة، والمتمردين عن الدين القويم.
{ وَ } إن كان أيضاً فيه { مَنَافِعُ } كثيرة { لِلنَّاسِ } لتوقف عموم الجرف والصنائع عليه { وَ } إنما أرسل سبحانه من أرسل، وأنزل معه ما أنزل { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ } أي: يظهر ويميز من عباده { مَن يَنصُرُهُ } سبحانه { وَ } ينصر { رُسُلَهُ } المرسلين من لدنه؛ أي: من ينصر دينه المنزل على كل واحد من رسله المعبوثين من عنده؛ لإظهاره وترويجه { بِٱلْغَيْبِ } أي: قبل قيام الساعة وانكشاف السرائر؛ وما ذلك الإرسال والإنزال منه سبحانه إلاَّ لابتلاء العباد واختبارهم، وإلاَّ فهو منزه في ذاته عن إعانتهم ونصرهم { إِنَّ ٱللَّهَ } القادر المقتدر على أنواع الإنعام والانتقام { قَوِيٌّ } على إهلاك من أراد إهلاكه { عَزِيزٌ } [الحديد: 25] غالب غلى عموم مقدوراته بلا مظاهرة ومعاونة.
وإنما أمر سبحانه عباده بالجهاد؛ لينالوا بامتثاله أعظم المثوبات.