ثمَّ قال سبحانه على سبيل التخصيص بعد التعميم؛ للاعتناء والاهتمام بشأن المذكورين: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً } إلى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم، وشاع انحرافهم عن المنهج القويم { وَإِبْرَاهِيمَ } حين ظهر الشرك وعبادة الأوثان والأصنام بين قومه { وَ } من كمال تعظيمنا وتكريمنا إياهما: { جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أبداً { فَمِنْهُمْ } أي: بعض قليل من ذريتهما { مُّهْتَدٍ وَ } بعض { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 26] خارجون عن جادة العدالة والقسط الإلهي.
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا } وعقبنا { عَلَىٰ آثَارِهِم } أي: بعد انقراضهم { بِرُسُلِنَا } وأيدناهم بالكتب والصحف وأنواع الآيات والمعجزات { وَ } بعدما انقرضوا أيضاً { قَفَّيْنَا } الكل { بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } وأيدناه بروح القدس { وَ } من كمال صفوته، ونجابة عرقه وطينته: { جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } وآمنوا له، وتدينوا بدينه { رَأْفَةً } عطفاً وليناً إلى حيث يعفون عن القاتل، ولا يضربون الشاتم والضارب { وَرَحْمَةً } يترحمون بها عموم عباد الله.
{ وَ } من شدة محبتهم ومودتهم بالنسبة إلى الله ابتدعوا { رَهْبَانِيَّةً } يبالغون بها في العبادات إلى حيث لا يطعمون، ولا يشربون إياماً، ولا ينكحون قط، ولا يختلطون مع الناس، بل يوطنون نفوسهم في شعب الجبال والكهوف، وإنما { ٱبتَدَعُوهَا } من تلقاء أنفسهم بلا رخصة منَّا إياهم؛ إذ { مَا كَتَبْنَاهَا } أي: الرهبانية، وما فرضناها وقدرناها { عَلَيْهِمْ } في دينهم وكتابهم، بل ما اختاروها { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } وطلباً لمرضاته، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي: ما وافقت رهبانيتهم بدينهم وكتابهم؛ إذ كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو من أعظم معتقدات دينهم وكتابهم فتركوه، وأنكروا عليه جهلاً وعناداً { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي: أجر إيمانهم وأعمالهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 27] خارجون عن مقتضى دينهم وكتابهم بإنكار محمد صلى الله عليه وسلم.