اذكر لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } القادر المقتدر على الإحياء والإماتة في الإبداء والإعادة { جَمِيعاً } مجتمعين، فيعاتبهم بما صدر عنهم، مثلما عاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَيَحْلِفُونَ لَهُ } أي: لله حينئذٍ على أنهم مسلمون مؤمنون { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } الآن أيها المؤمنون { وَيَحْسَبُونَ } حينئذٍ أيضاً { أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } نفع ودفع حاصل من حلفهم الكاذب، فيخيلون أنهم يروجون بالحلف الكاذب ما يدعون من الكذب على الله، كما يروجون عليكم اليوم، ولم يعلموا أن الناقد حينئذٍ بصير، والترويج إليه عيسر.
{ أَلاَ } تنبهوا أيها المؤمنون المخلصون { إِنَّهُمْ } أي: المنافقين { هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [المجادلة: 18] المقصورون على الكذب والزور، والتلبيس والغرور.
إذ { ٱسْتَحْوَذَ } أي: غلب واستولى { عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ } المضل المغوي { فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ } المنقذ عن الضلال، المرشد إلى الهداية، وبالجملة: { أُوْلَـٰئِكَ } الأشقياء المطرودون { حِزْبُ الشَّيْطَانِ } أي: جنوده وأتباعه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [المجادلة: 19] المقصورون على الخسران المؤبد، والحرمان المخلد عن ربح المعرفة واليقين؟!
أعذانا الله وعموم عباده من متابعة الشيطان المضل المغوي.
ثمَّ قال سبحانه: { إِنَّ } المفسدين المسرفين { الَّذِينَ يُحَآدُّونَ } ويعادون { ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ويعادون ويتجاوزون عن الحدود الموضوعة في الشرع بالوضع الإلهي المنزل على رسوله بالوحي والإلهام { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء المجاوزون المعادون، المعدودون { فِي } زمرة { ٱلأَذَلِّينَ } [المجادلة: 20] أي: من جملة من أذله الله، وختم على قلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولهم عذاب أليم.
وكيف لا يعد المتجاوزين من الأذلين؛ إذ { كَتَبَ ٱللَّهُ } العليم الحكيم، وأثبت في لوح قضائه بقوله: { لأَغْلِبَنَّ } ألبتة { أَنَاْ وَ } عموم { رُسُلِيۤ } المرسلين من عندي بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة على عموم المظاهر والمخلوقات، وكيف لا يغلب سبحانه على مظاهره { إِنَّ ٱللَّهَ } المتردي برداء العظمة والكبرياء { قَوِيٌّ } في ذاته، لا حول ولا قوة إلا بالله { عَزِيزٌ } [المجادلة: 21] مقتدر غالب، يغلب مطلقاً في عموم مراداته ومقدوراته؟!
ثمَّ قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير بعموم المؤمنين: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } المعدّ للحساب والجزاء { يُوَآدُّونَ } أي: لا تجدهم أن يوادوا وتحاببوا { مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ } وعاداه { وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ } أي: الحادون العادون المعاندون { آبَآءَهُمْ } أي: آباء المؤمنين { أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } وأقرباءهم، وذووا أرحامهم { أُوْلَـٰئِكَ } المقبولون الممتنعون عن و ودادة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم طلباً لمرضات الله ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم { كَتَبَ } أي: أثبت ومكن سبحانه { فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } وجعله راسخاً فيها.
{ وَ } لذلك { أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ } فائض { مِّنْهُ } محيي لهم أبد الآباد؛ إذ من يُحيى بالإيمان والعرفان فقد دامت حياته، ولم يمت أبداً { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } متنزهات العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي: أنهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي الذي هو الوجود المطلق الإلهي { خَالِدِينَ فِيهَا } لا يتحولون عنها أصلاً؛ إذ { رَضِيَ ٱللَّهُ } المتجلي عليهم بالرضا { عَنْهُمْ وَرَضُواْ } أيضاً { عَنْهُ } سبحانه بالتفويض والتسليم إليه { أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المقبولون عند الله { حِزْبُ ٱللَّهِ } وحوامل آثار أوصافه وأسمائه الذاتية، وقوابل عموم كلياته وشئونه وتطوراته { أَلاَ } أي: تنبهوا أيه الأظلال السمتظلون بضلاله الممدودة من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات { إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22] الفائزون من لدنه بالفوز العظيم، والفضل الجسيم، والكرم العميم.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب المترقب للفلاح، والفوز بالنجاح أن تتمكن في مقام التسليم والرضا بعموم ما جرى عليك من القضاء، وتلازم على آداب الخدمة بين يدي الله في عموم أوقاتك وحالاتك، فاغراً همَّك وسرك عن مطلق الوساوس والأشغال العائقة عن التوجه نحو المولى، وتواظب على الطاعات والعبادات في خلال الخلوات؛ لتكون مصونة عن السمعة والرياء، والميل إلى العجب والهوى، وإياك إياك أن تتلطخ بقاذورات الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الأخروية، المستتبعة للسلاسل والأغلال الإمكانية، والمبعدة عن الوصول إلى فضاء الوجوب وصفاء الوحدة الذاتية التي عبر بها عن النعيم الموعود، والحوض المورود، والمقام المحمود.
جعلنا الله ممن وصل إليه، وتمكن دونه بمنِّه وجوده.