التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

تفسير الجيلاني

{ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ } السميع المجيب لمناجاة خُلَّص عباده، العليم بحاجاتهم { قَوْلَ ٱلَّتِي } أي: دعاء المرأة التي { تُجَادِلُكَ } يا أكمل الرسل { فِي } حق { زَوْجِهَا } حين وقع بينهما ظهار.
رُوي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها أوس بن الصامت، وكان الظهار والإيلاء حينئذٍ من عداد الطلاق، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"حرمت عليه" فكررها، فأجاب صلى الله عليه وسلم كذكل { وَ } بعدما أيست أخذت { تَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } متضرعة خاشعة فجيعة؛ إذ لها أولاد صغار، ولا متعهد لهم سواها، فقالت مناجية إلى الله مشتكية: اللهم إني أشكو إليك، وأتضرع نحوك، فأنْزِل على نبيك ما يؤلف بيني وبين زوجي، وترحم على أولادي المعصومين، وهي على هذا فأوحى سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ... }، { وَٱللَّهُ } على ما جرى بينكما { يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } وتراجعكما في الكلام، وكيف لا { إِنَّ ٱللَّهَ } العلم بالسرائر والخفايا { سَمِيعٌ } لأقوال عباده { بَصِيرٌ } [المجادلة: 1] بأحوالهم ونياتهم؟!
ثمَّ بيَّن سبحانه حكم الظهار فقال: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ } والظهار هو أن يقول الرجل لامرأته عند الخصومة: أنت عليَّ كظهر أمي؛ أي: شبهها بأمه المحمرة عليه، فكانت هي أيضاً محرمة على زوجها في عادة الجاهلية؛ لأن الحرمة سرت إليها بمجرد التشبيه، فصارت بمنزلة الأم، رد الله عليهم أمرهم هذا بقوله: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } بمجرد هذا القول الباطل { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ } أي: ما أمهاتهم { إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } فلا يشبه بهن في الحرمة غيرهن إلاَّ ما ورد الشرع بتحريمهن، مثل أمهات الرضاع، وأزواج النبي صلى الله لعيه وسلم اللاتي هن أمهات المؤمنين { وَإِنَّهُمْ } من شدة إفراطهم وطغيانهم { لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ } مردوداً في الشرع { وَزُوراً } باطلاً منحرفاً عن الحق في نفسه؛ إذ لا يشبه الزوجة بالأم { وَإِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لضمائر عباده ونياتهم { لَعَفُوٌّ } لفرطات القائلين { غَفُورٌ } [المجادلة: 2] لذنوبهم لو تابوا واستغفروا.
{ وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ } للتلافي والتدارك مناقضين { لِمَا قَالُواْ } نادمين عنه، مسترجعين { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي: يلزمهم في الشرع تحرير رقبة في كل مرة؛ ليكون كفارة قولهم المنكر الباطل { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أي: يستمتعا ويجتمعا؛ أي: المظاهِر والمظاهَر عنها { ذَلِكُمْ } أي: إلزام الكفارة عليكم { تُوعَظُونَ بِهِ } وترتدعون عنه خوفاً من الغرامة؛ إذ ليس هو من شيم أهل الإيمان، بل من ديدنة الجاهلية الأولى { وَٱللَّهُ } المراقب على عموم أحوالكم وأعمالكم { بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة: 3] أي: بجميع أعمالكم ونياتكم فيها.
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } ولم يقدر على تحرير الرقبة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } أي: كفارة ظهاره: صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ } متصلين، متوالي الأيام، فإن فصل وأفطر يوماً استأنف، واشتراط التتابع والتوالي؛ لتنزجر نفسه وترتدع عنه، ولا يفعله قط، ولا يتكلم به مرة أخرى، ذلك أيضاً { مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ويتجامعا { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } ولم يقدر للصوم؛ لهرم أو مرض أو شبق مفرط { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } يُعطى كل مسكين مداً من الطعام { ذَلِكَ } أي: لزوم الصوم والإطعام عند فقدان التجريد المذكور { لِتُؤْمِنُواْ } وتصدقوا { بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } في أصول الأحكام الشرع والأوامر والنواهي الإلهية الجارية فيه، وتتركوا ما أنتم عليه من الرسوم والعادات الجاهلية بينكم في جاهليتكم الأولى { وَ } بالجملة: { تِلْكَ } الحدود المذكورة { حُدُودُ ٱللَّهِ } المصلح لأحوالكم، إنما وضعها بينكم؛ لتصلحوا بها ما أفسدتم على أنفسكم بمقتضى أهويتكم الفاسدة، وآرائكم الباطلة { وَ } اعلموا أن { لِلْكَافِرِينَ } الجاحدين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والأحكام الشرعية { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المجادلة: 4] في الدنيا والآخرة.