ثمَّ بيَّن سبحانه مصارف الفيء بعد إخراج سهم الله ورسوله، وقدم منهم فقراء المهاجرين اهتماماً بشأنهم فقال: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } أي: أخرجهم المشركون، ونهبوا أموالهم، وسبوا أولادهم، والحال أنهم في مصائبهم هذه { يَبْتَغُونَ } ويطلبون { فَضْلاً } تفضلاً وإحساناً { مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } منه سبحانه؛ لكمال تمكنهم ورسوخهم في مقام الرضا والتسليم { وَ } مع ذلك { يَنصُرُونَ ٱللَّهَ } يترويج دينه، وإعلاء كلمة توحيده { وَرَسُولَهُ } بالمعاونة والمظاهرة، وبذل المال والنفس في تقويته ونصره { أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المقبولون، الباذلون مهجهم في طريق الحق، وتقوية دينه القويم وصراطه المستقيم، ونصرة رسوله الكريم { هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } [الحشر: 8] المقصورون على الصدق والإخلاص ظاهراً وباطناً.
{ وَ } بعد أولئك الفقراء الأنصار، وهم { ٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } أي: توطنوا وتمكنوا في المدينة، ورسخوا على الإيمان والإسلام بالعزيمة الصادقة الخالصة { مِن قَبْلِهِمْ } أي: قبل هجرة المهاجرين إليها، ومع رسوخهم وتمكنهم في الإيمان { يُحِبُّونَ } محبة خالصة { مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } من المؤمنين { وَ } من كمال محبتهم وإخلاصهم بأخوانهم المهاجرين: { لاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ } ووجدانهم { حَاجَةً } باعثة لهم إلى أن يحسدوا { مِّمَّآ أُوتُواْ } وأعُطوا؛ أي: المهاجرين من سهام الفيء، وسائر الغنائم والصدقات؛ وذلك من غاية محبتهم ومودتهم بالنسبة إليهم، بل { وَيُؤْثِرُونَ } أي: يختارون ويقدمون المهاجرين { عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } حتى إن من كان له امرأتان نزل عن واحدة وزوَّجها على أحدهم.
وبالجملة: يؤثرونهم ويختارونهم؛ أي: المهاجرين على أنفسهم في آخر ما آثروا لنفوسهم { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: حاجة شديدة بليغة، ومحبة بالنسبة إلى ذلك الشيء، وما هو إلا من فرط محبتهم وإخلاصهم بالنسبة إلى إخوانهم المهاجرين { وَ } بالجملة: { مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ويخالفها حتى يمنعها عن مقتضاها طلباً لمرضاة الله، ورعايةً لجانب أخيه المسلم { فَأُوْلَـٰئِكَ } السعداء المحافظون على آداب الأخوة والمروَّة { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9] المقصورون على الفوز العظيم من عنده سبحانه عاجلاً وآجلاً، في العاجل بالذكر الجميل، وي الآجل بالجزاء الجزيل.
{ وَ } بعد فقراء الأنصار للفقراء التابعين، وهم { ٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } مهاجرين من بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب، مقتفين أثر أولئك الكرام، مريدين لهم بإحسان، مذكرين لهم بغفران، حيث { يَقُولُونَ } في مناجاتهم مع ربهم في خلواتهم، وأعقاب صلواتهم: { رَبَّنَا } يا من ربَّانا على فطرة الإسلام { ٱغْفِرْ لَنَا } ذنوبنا التي صدرت عنَّا { وَلإِخْوَانِنَا } في الدين، وهم { ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } وسلوك طريق العرفان { وَ } بالجملة: { لاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا } يا مولانا { غِلاًّ } حقداً وحسداً { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } مطلقاً، لا للسابقين ولا للاحقين { رَبَّنَآ } يا من ربَّانا على الإخلاص والتوفيق تقبل منَّا مناجاتنا، واقض لنا حاجاتنا { إِنَّكَ رَءُوفٌ } عطوف على عموم عبادك، سيما المخلصين منهم { رَّحِيمٌ } [الحشر: 10] تقبل توبتهم، وتغفر زلتهم إن استغفروا نحوك نادمين عما صدر عنهم.