التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

تفسير الجيلاني

{ قُلْ } يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام نيابةً عنَّا لليهود الذين يدّعون محبة الله وولايته بقولهم: نحن أولياء الله وأحباؤه منادياً لهم، متهكماً معهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ } وتهودوا { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ } املقرب لكم إلى الله؛ إذ الانتقال من دار الغرور إلى دار السرور تقربكم إلى الرحيم الغفور { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الجمعة: 6] في دعوى المحبة والولاء، فمتنوه.
{ وَ } الله يا أكمل الرسل { لاَ يَتَمَنَّونَهُ } أي: لا يتمنى أحد منهم الموت أصلاً { أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } أي: بسبب ما قدموا، واقترفوا بأنفسهم من الكفر والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان { وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع بعموم ما في استعدادات عباده { عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } [الجمعة: 7] وبما في ضمائرهم من المحبة والقساوة، يجازيهم على مقتضى علمه.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل بعدما أعرضوا عن تمني الموت وابتغائه طلباً لمرضاة الله، وشوقاً إليه أيضاً على وجه التبكيت والإلزام: { إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وتخافون أن تمنوه بلسانكم مخالفة أنه لا يلحقكم، بل تفرون عن مجرد التلفظ به، فكيف عن لحوقه { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } ملاصقكم، ولاحق بكم حتماً؛ إذ كل نفس ذائقة كأس لموت، ولك حي لا بدَّ وأن يموت سوى الحي الذي لا يموت، ولا يفوت { ثُمَّ } بعدما تموتون { تُرَدُّونَ } وتُحشرون نحو المحشر، وتعرضون { إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } بعلمه الحضوري { فَيُنَبِّئُكُم } ويخبركم حينئذٍ { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجمعة: 8] من خير وشر، فيجازيكم عليهما.
ثمَّ لمَّا تهاون المسلمون في أمر الجمعة، وتكاسلوا في الاجمتاع قبل الصلاة، بل انفضوا وصرفوا عن الجامع حين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سمعوا صداء الملاهي المعهودة لمجيء العير على ما هو عادتهم دائماً، عاتبهم الله سبحانه، وأنزل عليهم الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } مقتضى إيمانكم: المبادرة إلى مطلق الطاعات، سيما { إِذَا نُودِيَ } وأُذن { لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } أي: في يوم الجمعة، وهو الأذان المعهود قبيل الجمعة { فَٱسْعَوْاْ } مسرعين مجيبين { إِلَىٰ } سماع { ذِكْرِ ٱللَّهِ } في الخطبة والتذكيرات الواردة فيها { وَذَرُواْ } واتركوا { ٱلْبَيْعَ } بعد سماع الأذان { ذَلِكُمْ } أي: ترك البيع والانصراف نحو المسجد { خَيْرٌ لَّكُمْ } وأنفع في عقابكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة: 9] صلاحكم وإفسادكم في أولاكم وأخراكم.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ } وأُديت { ٱلصَّلاَةُ } المكتوبة لكم يوم الجمعة مع الإمام { فَٱنتَشِرُواْ فِي } أقطار { ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ } واطلبوا حوائجكم { مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } وإحسانه، وسعة جوده وإنعامه { وَ } بالجملة: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } المنعم المفضل عليكم { كَثِيراً } في عموم أحوالكم وأعمالكم، ولا تحصروا ولا تقصروا ذكره في الصلوات المفروضة فقط، بل اشتغلوا بذكره في عموم الأوقات والحالات، بالقلب واللسان، وسائر الجوارح والأركان؛ إذ ما من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا يفقهون تسبيحهم إلاَّ قليلاً، وواظبوا عليه { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10] وتفوزون بخير الدارين.
{ وَ } هم من غاية حرصهم على مقتضيات القوى البهيمية بعدما كانوا في الجامع عند سماع الخطبة { إِذَا رَأَوْاْ } وسمعوا { تِجَارَةً } حاضرة تدبير الناس حولها { أَوْ لَهْواً } طبلاً مخبراً لهم على مجيئ العير { ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } أي: مالوا وتحركوا نحوها مسرعين، فخرجوا من الجامع سوى اثني عشر من الرجال والنساء { وَتَرَكُوكَ } يا أكمل الرسل { قَآئِماً } على المنبر، وما هي إلا ثلمة ظهرت في الدين المستبين، موجبة مقتضية للتهاون بأحكام الشرع المتين، حدثت فيما بينهم.
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل إزاحةً لها، وإزالةً لما يتفرع عليها: { مَا عِندَ ٱللَّهِ } من المثوبات الأخروية الموجبة للدرجات العليَّة، والمقامات السنيَّة { خَيْرٌ } لكم وأصلح بحالكم، وأعظم نفعاً، وأبقى فائدة { مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } إذ لا نفع لها عند أهل الحق وإن فرض، فهو متناه زائل عن قريب، بخلاف الكرامة الأخروية فإنها تدوم أبداً { وَ } إن عللوا انفضاضهم بتحصيل الرزق الصوري قل لهم يا أكمل الرسل: { ٱللَّهُ } المظهر لكم من كتم العدم، المدبر المربي لأشباحكم بما ليس في وسعكم { خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [الجمعة: 11] يرزقكم من حيث لا تحستبون إن توكلتم عليه مخلصين، وفوضتم أموركم إليه سبحانه واثقين بكرمه العميم، وجوده العظيم.
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد الخائض لجج بحر الوجود، المتحقق بمقام الكشف والشهود - مكنك الله في مقر عز الوحدة، وجنبك عن الزيغ والضلال - أن تتوكل على الله، وتتخذه وكيلاً، وتفوض أمورك كلها إليه، وتجعله كفيلاً، فعليك ألاَّ تشتغل عن الله في آن وشأن، ولا تغفل عنه في حين من الأحيان، سيما في أمر الرزق الصوري الضروري، المقدر عند الله المدبر الحكيم لكل من دخل في حيطة الوجود، وظهر على صورة الموجود، فإنه يصل على من يصل حسب إرادة الله ومشيئته.
وإياك إياك أن تطلبه بالتجارة والسؤال، بل لك أن تستعمل آلاتك الموهبة لك من عند العليم الحكيم إلى ما جُلبت لأجله؛ لتكون من زمرة الشاكرين المتوكلين.
وبالجملة: الرزق على الله، ولا تكن من القانطين، واعبد ربك، واشكر على آلائه ونعمائه
{ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99].
ربنا اجعلنا بلطفك من زمرة الشاكرين، آمين.