التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

تفسير الجيلاني

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } وأيقنوا وحدة الحق واستقلاله في الوجود { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } يشغلونكم عن طاعة الله، وعن التوجه نحوه، والتوكل عليه بالتقريع والتشنيع، ويردونكم في أمر المعاش وتحصيله إلى المعاطب والمهالك؛ حتى تسألوا من كل غني غبي، وشحيح دني، فتسترزقون منهم، وترزقون لهم، ولا تثقون بالله، ولا تعتمدون عليه في كفالته وترزيقه فتزل ثقتكم عن خالقكم ورازقكم، وتزل قدمكم عن التثبت في صراط التوكل والتفويض.
وبالجملة: { فَٱحْذَرُوهُمْ } أي: عن الأولاد والأزواج، ولا تأمنوا من مكرهم وغوائلهم { وَإِن تَعْفُواْ } عن جرائمهم وتشنيعاتهم، وتوصلوهم إلى ما أملوا وترقبوا منكم { وَتَصْفَحُواْ } أي: تعرضوا عن إعراضهم، وعدم الالتفات إلى حالهم { وَتَغْفِرُواْ } أي: تمحو وتستروا ما صدر عنهم من التشنيع والتقريع، فتشتغلوا إلى إنجاح أغراضهم وإيجاد آمانيهم بعدما وفقكم الحق عليها { فَإِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على ما في ضمائرهم من مراعاة جانب الأولاد والأزواج { غَفُورٌ } لذنوبكم التي صدرت عنكم في أمر المعاش إن كانت برخصة شرعية { رَّحِيمٌ } [التغابن: 14] يرحمكم ويمحو زلتكم إن كان سعيكم؛ لتحصيل مقدار الكفاف والكفاية والقناعة، لا للفضول منها.
وبالجملة: { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } عظيمة، واختبار شديد لكم، فعليكم ألاَّ تغتروا بهما فإنهما من شباك الشياطين وحبالهم، يريدون أن يصدوكم عن سبيل الله بتزيينهما إليكم، وتحبيبهما في قلوبكم؛ لتشتغلوا بهما عن الله فتحطوا عن زمرة المخلصين { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن: 15] للمخلصين المجتنبين عن الالتفات إلى الغير مطلقاً.
وبالجملة: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } واجعلوه وقاية لنفوسكم من تغرير الشيطان وفتنته { وَٱسْمَعُواْ } قول الله بسمع الرضا والقبول { وَأَطِيعُواْ } أمره ونهيه، ولا تخرجوا عن مقتضى حكمه وأحكامه مطلقاً { وَأَنْفِقُواْ } مما رزقكم الله، واستخلفكم عليه امتثالاً لأمره، وطلباً لمرضاته ، وافعلوا جميع ما أمركم الحق، سيما الإيثار والإنفاق؛ ليكون امتثالكم وإنفاقكم { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } في أولاكم، وذخراً لكم في أخراكم، ومن معظم فوائد الإنفاق: صون النفس عن الشح المطاع { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } بالبذل والإنفاق { فَأُوْلَـٰئِكَ } السعداء المتصفون بالكرم والسخاء { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [التغابن: 16] الفائزون من الله بالمثوبة العظمة، والدرجة العليا.
وبالجملة: { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ } المنعم المتفضل أيها المنفقون المحسنون { قَرْضاً حَسَناً } مقروناً بالإخلاص والرضا، ومصوناً عن وصمة المن والأذى { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } إحسانكم أضعافاً كثيرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم، وإن عظُمت وكثرت { وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع على إخلاص عباده في أعمالهم ونياتهم فيها { شَكُورٌ } يحسن المحسن جزاء إحسانه أضعافاً مضاعفة، ويزيد عليها تفضلاً وامتناناً { حَلِيمٌ } [التغابن: 17] لا يعاجل بعقوبة المسيء رجاء أن يعود ويتوب، ويعتذر لما يصدر عنه من الذنوب.
وكيف لا وهو { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } يعلم بعلمه الحضوري منهم عموم ما في استعداداتهم وقابلياتهم من الإخلاص والإنفاق وغيرهما { ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على وجوه الإنعام والانتقام { ٱلْحَكِيمُ } [التغابن: 18] المتقن في عموم الأفعال والجزاء المترتب على الأعمال؟!
خاتمة السورة
عليك أيها الموحد المتحقق بمقام الفناء في الله، المستخلف منه سبحانه في عموم الأفعال والآثار، الصادر منك صورة أن تمتثل بمطلق الأوامر والنواهي الواردة عليك من عند ربك بمقتضى التكاليف المنبئة عن محض الحكمة المتقنة الإلهية، الجارية على وفق المصلحة المصلحة لأمور العباد في معاشهم ومعادهم، وتواظب على أداء الفرائض والواجبات الموجبة للعبودية بكمال التسليم والرضاء، وتلازم على الإتيان بالنوافل والمندوبات المقربة إلى الله، المستلزمة لمزيد الفضل والعطاء، فلك التبتل والإخلاص المقارن بالخضوع والخشوع، والتذلل التام، والانكسار المفرط في عموم ما جئت به من الطاعات والعبادات.
فاعلم أن الناقد بصير، وحبائل الشيطان في حواليك كثير، فلا تغفل عن غوائله، فإن إضلاله إياك سهل يسير، واتكل على الله في عموم أوقاتك، واستعذ به سبحانه من غوائله، فإنه سميع بصير.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير.