التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٥
-التغابن

تفسير الجيلاني

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ } ويقدس ذاته عن مطلق النقائض على وجه الإطلاق بعدما لم يبلغ كنه أسمائه وصفاته حتى يعد، ويحصى بتبيان مظاهر { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } من ذرائر عموم الأكوان، وكيف لا يقدِّسه جميع الأعيان؛ إذ { لَهُ ٱلْمُلْكُ } على سبيل التخصيص، لا مالك له سواه، ولا مستولي عليه إلاَّ هو { وَ } كذا { لَهُ ٱلْحَمْدُ } على سبيل الحصر والاختصاص؛ إذ لا مستحق للحمد بالاستحقاق إلاَّ هو، ولا مفيض للنعم على الآفاق غيره، ولا مقدر للأرزاق إلاَّ هو { وَ } بالجملة: { هُوَ } بذاته { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } دخل في حيطة وجوده { قَدِيرٌ } [التغابن: 1] لا ينتهي قدرته بمقدور دون مقدور.
وكيف لا يكون سبحانه قديراً لعموم المقدورات، مع أنه { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } وأظهركم، وقدر خلقكم من كتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة ومدو، وفصَّلكم بعدما أظهركم { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } ساتر للحق، موفق عليه، محجوب بغيوم هوياته الباطلة الإمكانية عن شمس الحقيقة الحقية { وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } موفَّق على الإيمان، مجبول على فطرة التوحيد والعرفان، ميسَّر لها؛ لذلك يصير إيمانه عياناً، وعيانه حقاً وبياناً { وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع على عموم ما في استعدادات عباده { بِمَا تَعْمَلُونَ } من عموم الأعمال في جميع الشئون والأحوال { بَصِيرٌ } [التغابن: 2] فيعامل معكم بما يناسب أعمالكم.
واعلموا أيها المكفلون { خَلَقَ } سبحانه، وأظهر بكمال قدرته { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي: مظاهر ما في المعلومات والسفليات ملتبسة بالحكمة المتقنة، البالغة في الإحكام والإتقان حداً لا يبلغ كنهه أحلام الأنام، وبعدما رتبها بحكمته على هذا النظام الأبلغ الأبدع انتخب من مجموع الكائنات ما هو زبدته وخلاصته { وَصَوَّرَكُمْ } أيها المجبولون على فطرة التوحيد والتحقيق منها { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } إذ خلقكم على صورته قابلاً لخلافته، لائقاً للتخلق بأخلاقه، والاتصاف بصفوة أوصافه، وجعل فطرتكم غاية وعلة غائية مرتبة على عموم مظاهره ومصنوعاته { وَ } كيف لا يصوركم بصورته، ولا يحسن صوركم؛ إذ { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [التغابن: 3] أي: مصير الكل نحوه، ومرجعه لديه، ومبدؤه منه، ومعاده إليه؟!
{ يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري جميع { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: عالم الأسماء والصفات من الكمالات اللائقة للظهور والبروز { وَ } ما في { ٱلأَرْضِ } أي: موم ما في استعدادات قوابل الطبائع والأركان من الماديات والمجريات { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } أيها المكلفون { وَمَا تُعْلِنُونَ وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المحيط بالكل بمقتضى تجلية وظهوره عليه { عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [التغابن: 4] إذ لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن حيطة عمله ذرة.
ثمَّ قال سبحانه توبيخاً على من خرج عن ربقة عبوديته: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أيها المكلفون المنكرون بظهور الحق وثوبته، وتحققه في الأنفس والآفاق بالاستقلال والاستحقاق { نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } كقوم نوح وهود وصالح - عليهم السلام - { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي: كيف ذاقوا ضرر كفرهم وشركهم من العذاب النازل عليهم في النشأة الأولى بعدما أصرُّوا على ما هم عليه، ولم يهتدوا بإرشاد الأنبياء والرسل { وَلَهُمْ } في النشأة الأخرى { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التغابن: 5] لا عذاب أشد من ذلك، وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي.