التفاسير

< >
عرض

وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً
٨
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً
٩
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً
١٠
رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً
١١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً
١٢
-الطلاق

تفسير الجيلاني

ثمَّ قال سبحانه على وجه الوعيد للموسرين: { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ } أي: كثيراص من أهل قرية { عَتَتْ } أعرضت واستكبرت { عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ } متابعة { رُسُلِهِ } المرسلين من عنده إياها اتكالاً على ما عندهم من المال والثروة، والتفاخر على الأقران، والتفوق عليهم بأنواع النخوة والعدوان { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } أي: عن القليل والكثير، والنقير والقمطير { وَ } بعدما حاسبناها كذلك { عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } [الطلاق: 8] منكراً فجيعاً فظيعاً؛ والمراد: حساب النشأة الأخرى وعذابها، عبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعها.
{ فَذَاقَتْ } حينئذٍ { وَبَالَ أَمْرِهَا } أي: إعراضها عن الله وأهله ذوقاً محيطاً بها، بحيث لا يخلو من العذاب شيء من أعضائها وأجزائها { وَ } بالجملة: { كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا } الذي كان عليه في النشأة الأولى { خُسْراً } [الطلاق: 9] في النشأة الأخرى، وأيّ خسر لا خسر أشد منه وأكبر، وهو حرمانهم عن عز والقبول الإلهي، وانحطاطهم عن رتبة الخلافة والنيابة.
وبالجملة: { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } في العاجل والآجل { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } واعتبروا مما جرى على أولئك الغواة الطغاة، الهالكين في تيه العتو والعناد من وخامة عاقبتهم، ورداءة خاتمتهم، واعلموا أيها المعتبرون { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بوحدة الحق وبتصديقه رسله { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ } المدبر لمصالحكم { إِلَيْكُمْ ذِكْراً } [الطلاق: 10] ناشئاً منكم، مذكِّراً لكم أصل مبدئكم ومنشئكم، وكذا مرجعكم ومعادكم.
ولهذا جعله سبحانه { رَّسُولاً } مرسلاً من عنده إليكم؛ لإرشادكم وتكميلكم { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدة ذاته، وكمال أسمائه وصفاته { مُبَيِّنَاتٍ } مشروحات موضحات كل ذلك { لِّيُخْرِجَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله على وجه الإخلاص { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المؤكدة لإيمانهم { مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي: الظلمات الحاصلة من تراكم الكثرات، وتتابع الإضافات الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة إلى نور الوجود الذي هو الوحجدة الذاتية المسقطة لعموم الإضافات مطلقاً.
{ وَ } بالجملة: { مَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ } ويوقن بوحدته { وَيَعْمَلْ صَالِحاً } طلباً لمرضاته { يُدْخِلْهُ } سبحانه بمقتضى فضله ولطفه { جَنَّاتٍ } منتزهات العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } المترشحة دائماً من البحر المحيط الذي هو حضرة العلم الإلهي، ولوح قضائه المشتمل على عموم الكوائن والفواسد الجارية في فضاء الوجود مطلقاً { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } لا يتحولون منها أصلاً، وبالجملة: { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } [الطلاق: 11] صورياً ومعنوياً.
وكيف لا يحسن رزقه سبحانه، مع أنه { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ } أي: أظهر وقدَّر بمقتضى قدرته الكاملة { سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } علويات مطبقات على عدد الأوصاف السبعة الذاتية الإلهية، وجعلها مسكناً للمجردات من الملائكة والأرواح { وَ } قدَّر { مِنَ ٱلأَرْضِ } السفلى؛ أي: عالم العناصر أيضاً { مِثْلَهُنَّ } مطبقات بعضها فوق بعض: طبقة الأثير الصرف، وطبقة الأثير الممتزجة، وطبقة الزمهرير من الهواء، وطبقة الهواء الصرف، وطبقة الماء الصرف،م وطبقة الطين المركب من الماء والتراب، وطبقة التراب الصرف، على عدد القوى السبع الإنسانية الفائضة على أعضائه السبعة، وهي: الدماغ، والكبد، والعين، والأذن، والأنف، واللسان وجميع البشرة من الصانع الحكيم؟!
وإنما رتبها سبحانه وطبقها عليها؛ حين { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ } الإلهي { بَيْنَهُنَّ } يعني: تصير السفليات قوابل الآثار العلويات، يقبلن منها ما يفيض عليهن من الكمالات المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية، كل ذلك { لِّتَعْلَمُوۤاْ } أيها المجبولون على فطرة العلم والمعرفة { أَنَّ ٱللَّهَ } المستقل بالألوهية والربوبية { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } دخل في حيطة الوجود، ولمع عليه برق الشهود { قَدِيرٌ } لا ينتهي قدرته عند مقدور { وَ } لتعلموا أيضاً { أَنَّ ٱللَّهَ } المتصف بالقدرة الكاملة { قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ } دخل في حيطة قدرته { عِلْماً } [الطلاق: 12] إذ لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المتحقق بمقام القلب وسعته، وقابليته لنزول سلطان الوحدة الذاتية الإلهية مع بُعد غورها، ورفعة طورها عن أحلام الأنام مطلقاً أن الله المتجلي على كل جلي وخفي قدير على مقدورات لا تتناهى، ومرادات لا تُعد ولا تُحصى بمقتضى حيطة علمه بمعلومات لا غاية يحدها، ولا نهاية يحيطها.
فله سبحانه الإعادة والإبداء، والإماتة والإحياء، وله التصرف في ملكه كيف يشاء حسب اقتضاء الأوصاف والأسماء، لا إله إلا هو، له الاسماء الحسنى، وله الحمد في الآخرة والأولى.