التفاسير

< >
عرض

يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
-الطلاق

تفسير الجيلاني

{ يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } المبعوث إلى كافة البرايا؛ لترشدهم وتصلح أحوالهم، فلزم عليك وعليهم أصلاً وفرعاً { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } وقصدتم دفع رابطة العلاقة الشرعية بالفرقة الشرعية أيضاً { فَطَلِّقُوهُنَّ } وادفعوا عنهن قيد الألفة المقتضية للزوجية { لِعِدَّتِهِنَّ } أي: في إيتانها ووقتها الذي هو مدة الطهر قبل وقوع الوقائع فيها { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } الكاملة أي: الأطهار الثلاثة مع المطلقات الثلاثة؛ حتى تقع كل طلقة في طهر { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } المنتقم الغيو الذي ربَّاكم على مقتضى العدالة، فعليكم ألاَّ تتجاوزوا عنها، فلا تزيدوا على عدتهن بالمراجعة عليهن، ثمَّ تطلقوهن.
فعليكم أن { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } بالتعدي بعد وقوع الطلاق { مِن بُيُوتِهِنَّ } أي: مساكنكم التي كن فيها قبل الفرقة؛ حتى تنقضي عدتهن فيها { وَلاَ يَخْرُجْنَ } أيضاً بأنفسهن بعد الفرقة من مساكنهن بلا رضاً منكم أيها المطلِّقون، بل لا بدَّ لهن أن يعتددن فيها { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي: زناً يشهد له شهود على الوجه المعتبر في الشرع، فحينئذٍ يخرجن؛ لإجراء الحد عليهن، فيصبح هذا الاستثناء من كلا الحكمين السابقين.
{ وَتِلْكَ } الحدود المذكورة { حُدُودُ ٱللَّهِ } العليم الحكيم، الصادرة عنه بمقتضى الحكمة البالغة المقتضية للعدالة الكاملة { وَمَن يَتَعَدَّ } ويتجاوز { حُدُودَ ٱللَّهِ } المنتقم الغيور { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بالعرض على عذاب الله عاجلاً وآجلاً، إنه { لاَ تَدْرِى } وتعلم نفس المطلِّق المجاوز عن الحد الشرعي بالتطويل في العدة، والتهاون على المرأة أو نفس المرأة المطلقة بإتيان الفاحشة في أوان العدة وغيرها { لَعَلَّ ٱللَّهَ } المقتدر { يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ } التفريق والبينونة { أَمْراً } [الطلاق: 1] بأن جعل للمطلق بدل تلك الزوجة المطلقة زوجة سليطة مسلطة عليه، أو جعل للمطلَّقة زوجاً أشد إيلاماً منه.
وبالجملة: { فَإِذَا بَلَغْنَ } أي: المطلقات { أَجَلَهُنَّ } أي: شارفن على انقضاء عدتهن { فَأَمْسِكُوهُنَّ } وراجعوا إليهن { بِمَعْرُوفٍ } مستحسن عقلاً وشرعاً ومروءةً، نادمين على ما صدر عنكم من الطلاق، محسنين إليهن، معطين لهن من الأمتعة جبراً لما كسرتم { أَوْ فَارِقُوهُنَّ } بعدما لم يبق بينكم وبينهن رابطة المحبة، وعلاقة الألفة { بِمَعْرُوفٍ } مستحسن مرضي لدى الشارع، مقبول عند عموم أرباب المروءات، بلا شرر ولا ضرار، وبلا أخذ شيء مما يتعلق بهن من الأمتعة المنسوبة إليهن عرفاً، بل أعطوهن شيئاً آخر معتداً به؛ ليعترفن بثنائكم وشكركم، ويدعون لكم بدل ما يدعون عليكم.
{ وَأَشْهِدُواْ } أيها المؤمنون عند اختيار الرجعة والفرقة { ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } قطعاً لعرق الخصومة والنزاع، وبعداً عن التهمة { وَأَقِيمُواْ } أيها الشهود { ٱلشَّهَادَةَ } الموكولة لكم { لِلَّهِ } طلباً لمرضاته سبحانه، وحافظوا عليها؛ كي تؤدوها لدى الحاجة { ذَلِكُمْ } الذي سمعتم من محافظة الحدود، وإقامة الشهود؛ لحفظ الحقوق والعهود من جملة المواعظ والتذكيرات التي وضعها الحق بمقتضى حكمته بين عباده؛ ليحافظوابها آداب العبودية.
إنما { يُوعَظُ } ويتذكر { بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } ويوقن بوحدة ذاته، ويصدق برسله المبعوثين من عنده، المؤيَّدين من لدنه { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } المعدّ؛ لتنقيد الأعمال، وترتب الجزاء عليها، فإن غير هؤلاء السعداء الأمناء التائهون في تيه الضلال بأناع الوزر والوبال، لا تتعظون بها وبأمثالها { وَ } بالجملة: { مَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } ويتحفظ نفسه عن قهره وغضبه، ويحافظ على رعاية حدوده الموضوعة من لدنه؛ لحفظ حقوق عباده، سيما حقوق الزوجية والائتلاف من كلا الطرفين، ويتوكل عليه في عموم أحواله، ويفوِّض أموره كلها إليه { يَجْعَل لَّهُ } سبحانه { مَخْرَجاً } [الطلاق: 2] عن مضيق الإمكان المورث لأنواع الخذلان والخسران.
{ وَيَرْزُقْهُ } ويسوق إليه جميع حوائجه المحتاجة إليه في معاش عياله { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي: من مكان لا يترقبه، ولا ينتظره { وَ } كيف لا { مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } مخلصاً له، مفوضاً أمره إليه { فَهُوَ حَسْبُهُ } وكافيه، يكفيه جميع المؤنة المحتاجة إليه في النشأة الأولى والأخرى؟! وكيف لا { إِنَّ ٱللَّهَ } القادر المقتدر على عموم المقادير { بَالِغُ أَمْرِهِ } بعدما فوَّض إليه سبحانه بالإخلاص والتسليم إلى حد قدَّر الله له في حضرة علمه، ولوح قضائه؛ إذ { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ } القدير الحكيم { لِكُلِّ شَيْءٍ } من الأشياء الظاهرة حسب أظلال الأسماء والصفات الإليهة { قَدْراً } [الطلاق: 3] أي: مقداراً معيناً من الكمال في عموم أفعاله وأحواله على مقتضى الاستعدادات الفطرية، والقابلية الجبلية؟!